في ظلال وداع أمي

 

 

 

انتقل إلى رحمته تعالى قُبيل فجر يوم الأربعاء 21 / ذو الحجة / 1435هـ، الموافق 15 / 10 / 2014م والدتي رحمها الله ولها حقٌ عظيمٌ وعظيم؛ ولا ينبغي أن أتكلم في خطبة الجمعة عن جانبٍ شخصي؛ فيجب أن نُنزه المنبر عن الامور الشخصية، لكن يستوقفني مواقف ودروسٌ وعبر.

الموقف الأول:

 ولعل من أهم وأعظم الدروس:استحضار قضية بر الوالدين:

-  كيف لا وقد قرن الله بر الوالدين بالتوحيد والعبودية له ? وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ? [الإسراء:23- 24]ولو أراد الإنسان أن يقف محللاً متدبراُ؛ لوقف طويلاً.

  وتمضي الآيات مذكرة، موصية، ومؤكدة: ? وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ ? [لقمان: 14]

? وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ ? [الأحقاف: 15]

وكل الآيات تأتي بعد الأمر بالتوحيد والعبودية لله.وكذا آيات سورة العنكبوت.

 

-وبرهما أقرب طريق إلى الجنة :

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ» ، قِيلَ: مَنْ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ» صحيح مسلم

-وبرهما طريق سعة الرزق والبركة، وطول العمر:

 عن أَنَسٍ بْن مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» متفق عليه.وبر الوالدين أعظم صلة للرحم.

-وبرهما سبب الرحمة والفرج:

 عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوْا المَبِيتَ إِلَى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لاَ أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلًا، وَلاَ مَالًا فَنَأَى بِي الطَلَبِ يَوْمًا، فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا، فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا، فَلَبِثْتُ وَالقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ، أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا، فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لاَ يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ..... ".

-فالتقصير في حقهما خطير:

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ  رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَادَتِ امْرَأَةٌ ابْنَهَا وَهُوَ فِي صَوْمَعَةٍ، قَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، قَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلاَتِي، قَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، قَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلاَتِي، قَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، قَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلاَتِي، قَالَتْ: اللَّهُمَّ لاَ يَمُوتُ جُرَيْجٌ حَتَّى يَنْظُرَ فِي وُجُوهِ المَومِسِات، وَكَانَتْ تَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ رَاعِيَةٌ تَرْعَى الغَنَمَ، فَوَلَدَتْ، فَقِيلَ لَهَا: مِمَّنْ هَذَا الوَلَدُ؟ قَالَتْ: مِنْ جُرَيْجٍ، [ وكانت امتحاناً خطيراً ثم برأه الله، هذا الامتحان الخطير بسبب عدم بر الوالدة وإن كان بسبب الا نشغال بالصلاة التطوع] أصل القصة في " البخاري

-بينما بر الأم خُلّد ذكر تابعي على لسان الرسول صلى الله عليه وسلّم عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ، سَأَلَهُمْ: أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ: أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لَكَ وَالِدَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ، مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ» فَاسْتَغْفِرْ لِي، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ)مسلم كان ذلك بفضل بره بوالدته، وقيامه عليها منعه من اللحاق برسول الله إلا بعد وفاته.

والآن أيها المسلم هل أنت بارٌ بوالديك؟

والله مهما كنتَ باراً فلحظة ما تفقدهما أو أحدهما فتشعر بعظيم الندم أنك كُنتَ مقصّر بحقهما فكيف إذا كنت مقصراً فعلاً؟

وماذا أعددت للقاء الله، فببرهما تكون النجاة،  وإلا الهلاك.

الموقف الثاني:

 الأم المربية:

عندما تكون الأم صالحة ذات ثقافة إسلامية جيدةٍ وذات صلاحٍ وعبادةٍ لتكون مدرسة في تربية الأبناء حيث أنه في أكثر الأحوال ينشغل الأباء خارج بيوتهم؛ فإن الأم عندئذٍ تكون سبباً عظيماً في تربية الأبناء وإعدادهم، تُذكرهم بالإيمان بالله وحب الله ورسوله، وتذكرهم بالصلاة وتربيهم عليها، تُعلّمهم كتاب الله تلاوة وتدبراً وعملاً، تُرشدهم إلى سُنن المصطفى صلى الله عليه وسلّم، تُذكرهم بذكر الله، تُربّيهم على حسن العمل الصالح، وعلى  الإخلاص ومساعدة الأخرين، وحفظ اللسان، والإنفاق في سبيل الله، وحفظ الوقت وحفظ النعمة، وحب الإنسان لأخيه وأسرته ومجتمعه، تكون سبباً في تقوية الروابط، كما تُرضعهم لبان العزة والقوة والشجاعة والأنفة والكرم والمروءة والعفة، وهذا كله يتأتى من الأم الصالحة المربية وهذا يعني أن كل امراة أو فتاةٍ ينبغي أن تُعد نفسها الإعداد الشرعي والعلمي والأخلاقي لتستطيع أن تقوم بالحد الأدني في هذه الأمور، ولا شك أننا لو استعرضنا حياة أمهات المؤمنين والصحابيات المؤمنات؛ سنجد نماذج عظيمة على هذه المعاني كلها مما لا يتسع لها المقام.

الأم مدرسة إذا أعددتها                     اعددت شعباً طيّب الأعراق

الموقف الثالث:

 الزوجة الصالحة:

كما يعني هذا أي الحديث عن الأم الصالحة أن الشاب عندما يختار زوجة لا بد أن يُلاحظ فيها هذه القدرات في حدها الأدنى؛ نعم الناس يتفاوتون في ذلك ولكن تسطيع أن تجتهد  الأخوات الفضليات و يسعين لإعداد أنفُسهن لتحصيل حظٍ من كتاب الله وسنة المصطفى، ولو بحدود كتاب رياض الصالحين فذلك كافٍ في الإعداد والتربية.

الزوجة الصالحة سببٌ من أسباب السعادة  عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ»مسلم

وفي بعض الروايات زيادة: أَلَا أُخْبِرُكَ بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُ الْمَرْءُ؟ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ» سنن الترمذي / فيه ضعف

والزوجة الصالحة تُعين زوجها على الصلاح ، والحرص على المال الحلال، والاقتصاد في المعيشة، وتحفظه في ماله ونفسه وأهله وولده، وتساعده على تنظيم وقته وإنجاز أعماله وتصبر عليه؛ إن كانت مشاغله كثيرة، وتدفع به نحو العمل الصالح، وترضى بالقليل من المال والنفقة، ولا تطلب من زوجها مزيداً من السعة في الدنيا بل تكون أقرب إلى القناعة والزهد لا بُخلاً بطبيعة الحال بل توجيهاً للإنفاق في ميادينه الصحيحة.

الموقف الرابع:

وهذا يقودنا إلى دور المرأة المسلمة المؤمنة الصالحة العابدة في المجتمع: فعندما تكون داعية بلسانها وحالها ومقالها وأخلاقها وثقافتها واهتمامها بدينها ونفسها وحرصها على خدمة هذا الدين والمجتمع بما يُرضي الله سبحانه وتعالى، إنه إذا تمّ إعداد فتياتنا وبناتنا ومن ثمَّ نسائنا الإعداد الصحيح علماً وخُلقاً وفهماً وتربيةً وتفاعلاً مع كتاب الله وسنة المصطفى فإنك تضمن المجتمع وتضمن الأسرة وتضمن الأبناء الصالحيين وعندها تستطيع أن تقول إننا أمة تسير نحو النصر وتحرير المقدسات وبناء مجتمع خالٍ من الفساد والاستبداد والخنوع والخضوع لغير الله؛ بل نبني مجتمع النور والقوة والأمانة والكرامة والعدالة.

تلكم هي الأم الصالحة والزوجة الصالحة والمرأة الصالحة..

 ولخطورة عدم تحقق ذلك كله ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأتين: ? ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ? [التحريم: 10]

 

ولأهمية أن تتحق الزوجة أو الأم أو عموم المرأة بهذه المعاني العظيمة في الإيمان والتربية وغيرها من الأخلاق؛ ضرب الله مثلاً للذين آمنوا (لكل المؤمنين وليس فقط للنساء) امرأتين عظيمتين ? وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ ، وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ ? [التحريم:11- 12]

تلكم أمي

ذلكم بعض ما تعلمته من أمي رحمها الله فجزاها الله عني وعن إخوتي وعن والدي وعن المسلمين والدعوة الإسلامية خيراً وتقبلها ربها بقبولٍ حسنٍ إن شاء الله. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين