في ظلال الهجرة النبوية

بينَ مشهدَيْن 

المشهدُ الأوَّل: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الغارِ مع صاحبِه، يحيطُ به المشركونَ من كلِّ جانب، وهوَ مطمئنُّ النَّفس، هادئُ الروح، يخاطبُ الصدّيق أبا بكرٍ الباكي خوفاً على الدَّعوة وقائدها : ما ظنّك باثنين الله ثالثهما ، لا تحزن إنَّ الله معنا . 

المشهدُ الثاني بعدَ عامَين من المشهد الأوَّل: يومَ بدرٍ, رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في عريشِه بعد أن صفَّ الجنودَ، ورصَّ الصفوفَ، يبكي مُتَضرِّعاً حتَّى يسقطَ رداؤهُ عن كَتِفَيهِ، بينما أبو بكرٍ رضي الله عنه يهوّن عليه، ويحاولُ التَّخفيفَ عنه, ويقولُ له: يا نبي الله, بعض مناشدتك ربك ، فإن الله منجزٌ لك ما وعدَك .

الفارقُ بين الحالتين, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحالة الأولى انقطعت عن أسباب الخلق، وعوامل النَّصر الماديَّة، وقوى البشر التي يمكنُ لها إعانتُه في مواجهة الباطل، ويُتَصَوَّر إمكان الإتّكال عليها فيما لو وُجدَت, فسَكنَت نفسُه، وهدأت روحه، وقد أيقنت أن الله لايضيُّعُه 

أما في الحالة الثانية فقد خشيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلَه الله تعالى وجنودَه إلى الأسبابِ التي أعدّهَا ـ مع التأكيدِ على وجوبِ إعدادِها ـ وأن يعتمدَ جندُه على صفوفهم المرصوصَةِ, وقوَّتِهم الماديَّة, فأكثرَ من الالتجاءِ إلى الله تعالى خوفاً من اغترارِ أصحابِه بالأسبابِ والغفلِة عن مُسَبِّبِها, فيهلكونَ وتنهزمُ الدَّعوة.

فيا أيها المُعتزُّ بذاتِك، المغترُّ بكتائبكَ وألويتِكَ، المتباهي بما لديكَ من عتاد غنمتَه وحُزتَه ، المسرورُ بكثرةِ أتباعِكَ وأصحابِكَ وشدَّةِ بأسهم عندَ المواجهة، الغافلُ عن مُسبِّب الأسباب, لا يليقُ بمَن كانت هذه حالُه أن يطمئنَّ ويقول: لا تحزن إن الله معنا !!

 

في ظلال السيرة

في الهجرة النبويَّة وظَّفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلَّم طاقاتِ وقدراتِ شرائح المجتمع كافَّةً في صناعة هذا الحدث المفصَليّ, الشّابُّ الفدائيّ علي بن أبي طالبٍ للنَّومِ في فراشِه ورَدِّ الودائعِ لأصحابِها, والتَّاجرُ والوَجِيهُ في قومِه أبو بكرٍ الصدّيق لصُحبَةِ الطَّريق, والشَّابُّ المثقَّفُ الواعي عبدالله بن أبي بكر لمتابعةِ تدبيرِ قريشٍ, وجمعِ المعلوماتِ حولَ مكرِها ونقلِ الخلاصة إلى النَّبي صلى الله عليه وسلّم, والمرأةُ أسماءُ بنتُ أبي بكر ـ وهيَ في شهورِ حملِها الأخيرة ـ لنقلِ الزَّادِ إلى الغار, وراعي الغنم عامر بن فهيرة الموظّف عندَ أبي بكرٍ للتَّعفِيَةِ على آثارِ الأقدامِ في إطارِ الإجراءاتِ والاحتياطاتِ الأمنيَّة, حتَّى الكافرُ الموثوقُ عبدالله بن أريقط كانَ جزءاُ من العملِ إذ كانَ الدَّليل في الطَّريق.

هكذا هيَ الأحداثُ المفصليَّةُ, والتحوّلاتُ التاريخيَّةُ, لا يصنعُهُا قائدٌ بمفرَدِه ولو كانَ فذَّاً في القدرة والطَّاقةِ والإبداع, بل إنَّ القائدَ الحقيقيَّ هوَ الذي يُشرِكُ مختلفَ الشَّرائحِ في الأمَّة فيصهرها في فريقٍ متماسكٍ, تتمازجُ أرواحُ أفرادِه, وتتكاتَفُ قدراتُهم, وتتعاضَدُ طاقاتُهم, وتتكاملُ خبراتُهم, فتُثمرُ فِعَالُهُم ـ بتوفيقِ الله تعالى ـ إنجازاتٍ تسري عبرَ الزَّمانَ آثارُها. 

فهل وَعَى ذلكَ العامِلُون ؟!!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين