في ظلال أسماء السور القرآنية (5) الإسراء وبني إسرائيل وسبحان

يلفت الانتباه أن اسمي السورة ( الإسراء .. وبني إسرائيل) مشتقان من الجذر ذاته ( سرى)، لكنهما من المزيد الرباعي ( أسرى).

وأيا كانت دلالة الكلمة الأصلية أو الجذر، فإن من الضروري عدم التغافل عن كون الاسمين مشتقين منه وأن بينهما معنى مشتركاً.

إن رحلة الإسراء إلى المسجد الأقصى تضمنت انتقال الإمامة الدينية من بني إسرائيل إلى محمد وأُمته.

وإذا تذكرنا أن بني إسرائيل كانت لهم الرحلة ذاتها تقريباً إلى الأرض المقدسة لإقامة الدين وهو ما توج بخلافة داود وابنه سليمان عليهما الصلاة والسلام، وقد كانت لصالحيهم الإمامة الدينية زمنا طويلاً واختارهم الله على علم على العالمين.. فهذا قد يفسر معنى الإسراء بأنه يتضمن الرحلة والانتقال لغرض سامٍ ومهمة رفيعة، فقد فعلوه كقبيلة ترجع إلى الأب يعقوب عليه السلام.

وحيث لُقّب الأب يعقوب أو سُمّي بهذا الاسم – إسرائيل- فلا بد أن يكون هو نفسه قد أُسري به، أي طُلب إليه الانتقال والرحلة لمهمة عالية وعظيمة، وذلك حين انتقل مع ذريته إلى مصر بطلب من يوسف عليهما الصلاة والسلام، وكان مطلوباً توطين الدين في الحاضرة المصرية، ليكون مصدر إشعاع فيها وفيما حولها، حيث لا يكفي الرسول يوسف عليه السلام وحده لتوطين الدين وتثبيته في تلك الأرض ذات العراقة الفكرية والاجتماعية والدينية والسياسية، ولا بد من كتلة بشرية موحِّدة لتحقيق التوازن الديمغرافي النسبي وبالتالي التأثير القوي والتغيير الفاعل.

ولأن هذه المهمة ارتبطت بالذرية على مدى قرون فقد كثر في القرآن ورود إسرائيل مضافاً إليه، والمضاف هو (بنو ، بني)، وكان ورودها مجردة عن الإضافة مرتين فقط.

وهذا يعيدنا للبداية؛ حيث الرحلة لتسلم الإمامة الدينية من الجماعة التي كان صالحوها أئمة بعد فقدانهم الأهلية لذلك، إذ إنهم لم يكتفوا بأنهم لم يعودوا صالحين لها، ولم يتوقفوا عند حدود أن يكونوا فاسدين، بل أصبحوا مفسدين، وأضحوا أئمة للفساد بعد أن كانوا أئمة للإصلاح.

ويبدو أن فكرة الرحلة العُلوية للمهمة السامية قد صارت جزءاً من لغة العهد القديم وإن نسي أتباعه السبب، حيث تكرر التعبير بكلمات قريبة من ( صعد) أو ( ارتفع) على ما أذكر، خاصة في الذهاب إلى القدس أو فلسطين، وفي العبرية المعاصرة، يستخدمون تعبير ( عوليه ليروشلايم ) للذاهب إلى القدس، ويسمّى اليهود القادمون الجدد إلى فلسطين ( عوليم حداشيم).

• إعلام مسبق بانتهاء الصلاحية وتوقف الوظيفة 

ويمكن أن نفهم العلاقة بين اسمي السورة التوقيفيين ( الإسراء) و ( بني إسرائيل)، أنها علاقة سببية؛ بمعنى أن أحدهما سبب والآخر نتيجة.

وهذا ما تؤكده الآيات الأولى للإسراء، فبعد الحديث عن إسراء الله تعالى بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، يأتي الحديث عن إيتاء الله تعالى موسى الكتاب وجعله هدى لبني إسرائيل ثم ثم الحديث عن إفساد بني إسرائيل مرتين.

واللافت أن الله تعالى أخبرنا في القرآن أنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب أنهم سيفسدون في الأرض مرتين وسيعلون علواً كبيراً.

فأما أنه قضى عليهم فيما أنزل على رسلهم، أنهم سيفسدون مرتين، ففيه تنبيه وتعريف لهم أن مهمتهم ووظيفتهم الرسالية، حتى وإن طالت، فهي إلى انقضاء وانتهاء، والسبب في ذلك يعود إليهم ابتداء، وهو عملهم بعكس المهمة التي أنيطت بهم، أي الإفساد بدلاً من الإصلاح.

وبالتالي فإن تلك الوظيفة لم تُنَط بهم لسواد عيونهم، كما يقال، أو لعامل شخصي يتعلق بأصلهم أو غير ذلك، وفي الواقع فإن كل البشر ينتسبون بشكل أو آخر لعدد من الأنبياء، ابتداء بآدم ونوح عليهما السلام، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.

وأما أن الله تعالى أخبر محمداً وصحبه، ونزّل في قرآنه أنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب ليفسدن في الأرض مرتين، وذلك في سورة الإسراء، فحتى يشمروا عن سواعد الجد، ويتسلموا المهمة إلى يوم الدين، وليكونوا دوماً على حذر أنهم إن لم يقوموا بواجبهم فإنهم إلى استبدال ﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم﴾ [ محمد: 38].

ولعل الاسم التوقيفي الثالث للسورة ( سبحان) الذي هو الكلمة الأولى من السورة، إضافة إلى تنويهه بعظمة الرب الذي يُسري بعبده، والذي كل الناس له عبيد، سواء في ذلك الطائعون والآبقون، فإنه يشعر بأنه يتنزه عن إبقاء المفسدين سدنة لمسجده، ومتحدثين باسمه.

واللافت أيضاً أن آدم عليه السلام إذ عُرض عليه ذريته وأعمارهم، طلب أن يعطى داود أربعين سنة من عمره، ولعل ذلك لما رأى من قِصر خلافة داود وسليمان وبني إسرائيل في الأرض، وأنها لم تكن أكثر من ومضة سريعة في الواقع البشري.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين