في ذكرى نكبة فلسطين نكبة أمة لا نكبة شعب

 

في مايو الحزين من كلِّ عامٍ يزداد رَعفُ الجرح الغائر في قلب الأمَّة، ففي الرَّابعَ عشرَ من الشَّهر الخامس من كلِّ عامٍ تعود علينا ذكرى الألم والمأساة، وتتعبَّق الأجواء بروائح الدِّماء المسلمة الطَّاهرة التي نزفت وما زالت تنزف هناك في فلسطين منذ النَّكبة التي وقعت باحتلال فلسطين من عام 1948 على يد الصَّهاينة بل في الحقيقة إنَّها ذكرى التبادل بين احتلالين الإنجليزي الصُّهيوني، ذكرى إعلان الكيان الصُّهيوني لنفسه على أرض فلسطين.

اعتاد المسلمون في بعض البلاد التي يسمح لهم فيها بذلك على إحياء هذه الذِّكرى الأليمة على أنَّها ذكرى نكبة فلسطين، ذكرى احتلال هذه البقعة من أرض المسلمين، فهل هي حقيقة نكبة الشعب الفلسطيني وحده، أم أنَّها نكبةٌ حلَّت بالأمَّة جمعاء، ولأسبابٍ وظروفٍ شارك في صنعها الكلُّ في العالم الإسلامي، ونتائجها انعكست على الأمَّة جمعاء، وما زالت الأمَّة تدفع ثمن الأخطاء والتَّقصير التي عاشتها منذ ذلك اليوم.

ففلسطين ليست ملكًا خاصًّا بالفلسطينيين بل هي أرض وقف إسلامي، أوقفه عمر بن الخطاب رضي الله عنه والفلسطينيون هم الجزء الصَّغير من الأمَّة الذي يسعى لتأدية دوره في حماية وتحرير أرض الأمَّة أرض الإسراء والمعراج .

وفي هذه العُجالة سأختلف في إحياء هذه الذكرى التي اعتدنا فيها على ندب حظ الشَّعب الفلسطيني، ونتباكى على أطلال قراه ومدنه التي دمِّرت، وأراضيه التي سُلِبت وتسلب، وعلى أرواح عشرات الآلاف من الأبرياء الذين أَجرمت في حقهم العصابات الصُّهيونية المحتلة وما زالت تفعل.

 فسأتحدث عن واقع الأمَّة في حين الاحتلال، وكيف سهَّل هذا الأمر الاحتلال، وعاشت الأمَّة من يومها حتى اليوم، نكبةٌ لم تخرج منها بل لم تر الخير من حين زرع هذا السرطان في جسدها، وكذلك سأتحدث عن ضعفها اليوم في إسناد الثلة المؤمنة هناك في فلسطين الذين قال فيهم المصطفى صلى الله عليه وسلم "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: "بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ". رواه البخاري ومسلم. 

الأمَّة العربية والقوى الثلاث ....

فمن المعلوم أنَّ مثلث القوَّة لدى الأمم مكوَّن من أضلاعه الثَّلاث القوَّة العسكريَّة والاقتصاديَّة والأخلاقيَّة، وفي عهد النَّكبة كانت الأمَّة في حالة ضعفٍ وخُوارٍ في الأضلاع الثَّلاث.

فعلى صعيد القوَّة العسكريَّة كانت الدَّولات العربيَّة التي خرجت من رحم اتفاقيَّة العار (سايكسبيكو) التي قسَّمت بالقلم والمسطرة الشَّعب العربيَّ والمسلم في المنطقة بطريقةٍ تمكِّن للاحتلال الذي تجذر في هذه الدُّول التَّحكم بها بل وكبَّلها باتفاقيَّاتٍ أوهنت قوتها العسكريَّة، وقد بدى ذلك واضحًا في العتاد الذي أرسلته بعض هذه الدُّول لفلسطين، حيثُ يذكر محمد عزَّت دروزة كيف أن إحدى الدُّول العربيَّة أرسلت 500 بندقيَّةً لتدعم المقاومة الفلسطينية كان غالبها لا يعمل وما يعمل منها نادر الطَّلقات، وكان يقود أكبر الجيوش العربيَّة لتحرير فلسطين من الاحتلال الصُّهيوني ربيب الدَّولة الإنجليزيَّة في حينها ضابطًا انجليزيًّا، ولك أن تتخيل كيف كانت تحفظ أسرار الجيوش العربيَّة التي كانت تحارب قوَّةً غازيةً مدعومةً بشكلٍ كاملٍ من القيادة الإنجليزيَّة في حينه. 

أمَّا على الصَّعيد الاقتصاديِّ فقد كانت الأمَّة منهمكة القوى نتيجة خروج معظم دولها حديثًا من الاحتلال العسكريِّ الأجنبيِّ، واستمرار الاحتلال تحت أقنعة أنظمة وطنيَّة المظهر تابعة للاحتلال من حيث الجوهر، إضافة للاتفاقيات الاقتصاديَّة التي فرضها المحتل على هذه الدُّول قبيل انسحابه جعلتها دول تابعة لهذه الدُّول المستعمرة اقتصاديًّا لا تقوى على شيء مستهلكة لا منتجة. 

أمَّا على الصَّعيد الأخلاقيِّ والاجتماعيِّ والدِّينيِّ فقد كان الضلع الأضعف في مثلث القوَّة في الأمَّة فقد أسقطت حديثًا الخلافة التي كانت على ضعفها في سنواتها الأخيرة تلعب دور النَّاظم والجامع للأمَّة، وما إن سقطت الخلافة التي شكلت النَّاظم لعقد الأمَّة حتى لحقتها حبَّات العقد اللؤلؤي في السُّقوط عاشت الأمَّة مرحلةً امتلأت فيه الحانات والمراقص وعشعشت العناكب على أبواب المساجد والمعابد ... مرحلة حورب فيه الدُّعاة والمصلحين وانتشرت فيه الرَّذيلة التي رسختها سني الاحتلال والتَّغريب القصري للمجتمعات وانحصر العمل الدَّعوي والدِّيني على بعض الحركات والجماعات الناشئة.

كلُّ هذه الأسباب كانت مؤشرًا واضحًا على خوار الأمَّة وضياعها في غياهب النكبة الحقيقيَّة نكبة أمَّة فقدت بوصلتها واختلت معاييرها فسهل افتراسها من الضباع المتربصة في حينه واستطاعت دولة الكيان الصُّهيوني أن تعلن عن نفسها متحدية أمَّة أثخنتها الجراح وأصاب شعوبها الوهن، فاحتلال فلسطين هو عرض وليس المرض الذي عاشته الأمَّة في حينه وما زالت تعيشه حتى اليوم ...

ما زال المرض قائما وفلسطين تتأوه ...

والنَّاظر لحال فلسطين اليوم يعلم أنَّ المرض ما زال ضارب بأطنابه في أعماق أعماق الأمَّة، وما زال مثلَّث القوَّة واهنٌ لا أثر له على العالم، فعلى صعيد الاقتصاد ازدادت تبعيَّة الأمَّة للمستعمر السَّابق الحليف اليوم! وما زالت الأمَّة مستهلكة كما كانت بل أكثر وأكثر وعلى الصَّعيد العسكري، فما زالت الأمَّة تتنافس على أموالها الشركات المصنعة للسلاح لتنهب أموالها بصفقات أسلحةٍ فاسدةٍ أو احتاجت الدُّول المصنعة لها للتَّخلص منها بأي وسيلة. 

أمَّا على الصَّعيد الأخلاقي فحدِّث ولا حرج وليس معرض للتَّفصيل في الأمر الواضح الجلي ولكن من أخطر ما تعيشه الأمَّة أنَّ الكثير من السَّاحات والمجتمعات والدُّول فيها تستقي أحكامها تجاه كل من يعمل من أجل فلسطين ويضحي ويدافع من الآية التي وصفت منهجية آل لوط ?فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ? [النمل:56] وضع مكان كلمة يتطهرون العشرات من الصَّفات التي تحتاج الأمَّة أيما احتياجٍ من يدعون ويتعلمون ويقدمون لفلسطين وأهلها بعضا مما يملكون.

ولن تزول النَّكبة وتنجلي غمتها عن فلسطين وأهلها إلَّا بعودة الرُّوح الأصيلة لمثلث قوَّة الأمَّة بأضلاعه الثَّلاث المال والسِّلاح والأخلاق كي تتمايز في ذلك عن أعداءها فتستحق أن ينزل عليها نعمة النصر والتمكين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين