في ذكرى الهجرة

 

هذه خطبة من أوائل الخطب التي كنت ألقيها من منبر جامع السلام بحلب ، وهي بين ألوف الأوراق المكتوبة، التي يشجعني الأخ الحبيب طارق عبد الحميد قباوة على إحيائها ، وقد تكرم بإرسال هذه الخطبة التي ألقيتها أيام الشباب الغض الطري منذ أكثر من أربعة وثلاتين سنة ، وهي تعبر عن تلك المرحلة المتأججة بالحماس ، وأقول كما قال بعض السلف عندما يعتريهم الفتور : واهاً لأيام البدايات . اللهم كما أحسنت البداية أحسن لنا الخاتمة ، وحقق لنا نصرك الذي وعدت
 
في ذكرى الهجرة
الشيخ مجد مكي
الجمعة 8/محرم /1398هـ
أكانت الهجرة أمراً يسيراً على نفوس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أيمكن لإنسان أن يغادر وطنه مغادرة لا يدري مصيرها، ثم لا تمتلئ نفسه بدواعي الأسى، ولا تفيض عينه بغزير الدمع ولا يكتظ صدره بحارق الزفرات؟ الحق أن الإنسان ما دام بشراً له عاطفته الجياشة وفؤاده الخافق، لابد أن يستشعر ذلك كله، والإنسان يلتصق قلبه بالمكان الذي يعيش فيه، ويلتصق قلبه بالناس الذين يساكنهم، ويجد في فراق ذلك كله أعظم المشقات.
الهجرة قد غدت عندنا مجرد كلمة ولم تكن في حقيقتها مجرد كلمة، لم تكن الهجرة كلمة ولكنها كانت إيماناً وصراعاً وجهادا، وكانت الهجرة تضحية ضخمة ونصراً حاسماً.
إن الهجرة محنةٌ في طريق الدعوة، هجرة في سبيل الله لا من أجل المال والكسب والقصور، لا من أجل السلطة والمنصب والجاه، لا فراراً من جو المعركة الملتهبة، والدعوة المُمْتَحنة، وإنما هجرةٌ لتثبيت دعائم المجتمع الجديد، والانطلاق نحو معاقلِ الجاهلية في مكة وفي مواضعها الأخرى على مدى العصور.
ما أصعب أن يضطر الإنسان إلى ترك بيته وبلده ووطنه والهجرة منه، إلى مكان بعيد لا يألفه ولا يعرفه ولا يأنس فيه.
 إن الإنسان روح وعقل ومشاعر، ولا يستطيع أن يتخلص من أحاسيسه ومشاعره التي بقيت معه منذ كونه طفلاً إلى سن الشيخوخة، والوطن يجمع كل هذه الذكريات.
لم تكن الهجرة عملاً سهلاً على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم فما كان من مكان أحبَّ لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم من البيت الحرام، و ما كان من مكانٍ أحبَّ إلى المسلمين من بيت الله و من مكة.
 لقد خرجوا من بلدهم وإن الحزن ليعتصر قلوبهم أشدَّ اعتصار.
ومن الكلمات التي تعبِّر عن مدى الألم الذي كان يعتمل في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين تركهم مكة فراراً إلى الله بدينهم وعقيدتهم، قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلقي نظرته الأخيرة على مكة بقلب والهٍ وفؤادٍ حزين وبنظرة حزينة يلقيها على الرُّبا والآكام، ثم يسترجعها مبللة بالدمع ممتزجة بالآلام، وهو يقول: (والله إنك لأحبُ أرض الله إليَّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت).
فهذه كلمات تمتزج بالدمع، وتقترن باللوعة والأسى، وتعبِّر عن تعلقِ الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة، لأنها كما قال:" أحب بلاد الله إلى الله".
 نعم لقد كانت مكة هي مهبط الوحي الكريم، ومثابة الناس جميعاً، وهي مقر الذكريات الغالية، وموطنُ الآباء والأجداد.
من أجل ذلك كله أحبها الصحابة رضي الله عنهم، وكانت مصدرَ إيناسٍ لنفوسهم، ومجتلى سحرٍ لعيونهم، ونبع سكينةٍ لقلوبهم، ولطالما تغنوا بجمالها، وأشادوا بمكانها، وهتفوا باسمها العذب وهم في المدينة يبثّونها شوقاً ولهفة، ولأدع الكلام للسيدة عائشة تحدثنا عن حنينها وشوقها ولهفها إلى مكة المكرمة، فتقول: (لولا الهجرة لسكنت مكة، فإني لم ار السماء بمكان أقربَ إلى الأرض منها بمكة، ولم يطمئن قلبي ببلدٍ قط ما اطمأن بمكة، ولم أر القمر بمكان أحسن من بمكة).
ويقول عبد الله بن أم مكتوم يعبر عن مكنونِ الشوق، ومذخور الحب إلى مكة مستقر الأهل ومجمع الأحبة:
يا حبذا مكة من وادي                أرض بها أهلي وعُوَّادي
أرض بها ترسخ أوتاري           أرض بها أمشي بلا هادي
إنه الحبُّ الجارف للبلد الأمين التي تحمل ذكرياتٌ معطرةٍ تمتزج بالدعوة وترتبط بالأهل والأحبة.
ولقد حدث أن مرض الصحابةُ الكرام رضي الله عنهم وغشيهم الوباء الذي كان بالمدينة فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمّى، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم، وصرف الله ذلك عن نبيه، فكان أبو بكرٍ وعامرُ بن فهيرة، وبلال موليا أبي بكر مع أبي بكر في بيتٍ واحد، فأصابتهم الحمى، فدخلت أعودهم، وذلك قبل أن يُضرب علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك: فدنوت من أبي فقلت: كيف تجدك يا أبت؟ فقال:
كلُّ امرئ مُصبَّحٌ في أهله          والموت أدنى من شراك نعله
فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول... فدنوت من عامر فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ فقال:
لقد وجدت الموت قبل ذوقه       إن الجبان حتفه من فوقه.
فقلت: ما يدري عامر ما يقول!! قالت عائشة رضي الله عنها: وكان بلال إذا تركته الحمى اضطجع بفناء البيت، ثم رفع صوته فقال:
ألا ليت شعري هلأبيتنَّ ليلةً   بوادٍ وحولي إذخر وجليل
وهل أرَدِنْ يوماً مياه مجنَّةٍ           وهل يبدون لي شامةٌ وطُفيل
إن بلالاً يحنُّ إلى مكة حنيناً جارفاً، و يتمنى أن يرى نباتها، ويردَ ماءها، وينظر إلى جبالها، قالت عائشة رضي الله عنها: فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى، فقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم حبِّب إلينا المدينة كما حبَّبت إلينا مكة أو أشد وبارك لنا في مُدِّها وصاعها، وانقل وباءها إلى مهيعة ـ أي الجحفة).
هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تفيض عيناه إذا ذكر له البيت أو ذكرت مكة... وهكذا كان أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يذوبون شوقاً إلى بلدهم الأول... تخلوا عنه ليكونوا مع دعوة الحق، وليشقوا لها الطريق، وتخلوا في سبيل عقيدتهم عن مشاعرهم وعواطفهم...
لقد كانت دلالة الهجرة أن ارتباط محمد صلى الله عليه وسلم والمسلمين بالعقيدة كان ارتباطاً كاملاً، بل لقد تحولوا جميعاً إلى عقيدة، ولذلك استطاعوا أن يخرجوا من مساكنهم ومن بلدهم وأن يخرجوا من عشيرتهم وأزواجهم وأولادهم، وأن يخرجوا من أموالهم...
لقد كانوا بعقيدتهم أقوى من كل علائق الدنيا وروابط الأرض فصعدوا فوقها، وبذلك حققوا نصرهم الحاسم ،واستطاعوا بعد ذلك أن يغيروا الدنيا...لأنهم كانوا سادتها ولم يكونوا عبيدها.
لقد تركوا وراءهم المال ومتاع الحياة وزينة الدنيا، وآثروا الفقر والجوع والغربة لا حباً في المال، ولا رغبة في الثراء، ولا حرصاً على الدنيا،تركوا كل ذلك من أجل العقيدة وطاعةً لله وللرسول، وتصميماً على مواصلة الدعوة... فكيف بأولئك الذين يتركون ديارهم وأوطانهم، ويتخلون عن دعوتهم، ويهربون من معركة العقيدة طلباً للثراء والرفاه، وحباً في الحياة وملذات الدنيا، فيبدلون مظاهر حياتهم، ويبنون القصور، ويحرصون على المتاع والشهوات ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
لقد تغلب الإيمان في تلك الساعات الحاسمة الرهيبة،على جميع الصعاب التي لا يطيقها إلا مؤمن. أما الهيَّاب الخوَّار القلق فما يستطيع شيئاً من ذلك إنه من أولئك الذين قال الله فيهم:[وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ] {النساء:66}.أما الرجال الذين التقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقبسوا من أنواره، و تواصوا بالحق و الصبر فإنهم نفروا خفافاً ساعة قيل لهم هاجروا إلى حيث تعزون الإسلام وتؤمِّنون مستقبله.
ونظر المشركون فإذا ديار المؤمنين بمكة قد تركت للبلى والخراب، بعد أن كانت بالأمس منازل أنس عامر، ومرابع تفيض بالبهجة والحياة.
لقد مر عتبة والعباس وأبو جهل على دار عامر بن ربيعة بعدما غلقت فقد هاجر صاحب الدار وزوجه وأخوه، ونظر عتبة إلى الدار تخفق أبوابها يباباً، ليس بها ساكن، فلما رآها تصفر الريح في جنباتها قال:
وكل دار وإن طالت سلامتها     يوماً ستدركها النكباء والحوب
ثم قال: أصبحت الدار خلاء من أهلها، فقال أبو جهل للعباس: هذا من عمل ابن أخيك، فرَّق جماعتنا، وشتَّت شملنا، وقطع ما بيننا. فانظروا - أيها المؤمنون - إلى الفجور في الكلام من أبي جهل الذي تتمثل فيه طبائع الطغاة، يجرمون ويرمون بالإجرام على أكتاف سواهم... ـ وهو ما يفعله الطغاة في كل وقت وزمان !!
 ماذا جناه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى يكون مصيرهم الرحيل من الديار، وترك الأوطان؟ ومن أحق بهذه الديار يعمرها بالخير، ويغمرها بالصلاح أهو محمد صلى الله عليه وسلم أم أبو جهل؟
مع قسوة الفراق، ولوعة البين، فإن مجرمي قريش لم يكونوا يتركون المهاجر يمضي حيث يشاء، بل كانوا يتعمَّدون إيذاءه وصرفه عن الهجرة، وهذه صورة توضح لنا المتاعب التي لقيها القوم على طريق الهجرة... فعندما ما أراد أبو سلمة الخروج إلى الهجرة هو وزوجه وابنه جعل لزوجه بعيراً وحملها عليه وجعل معها طفلها سلمة في حجرها، ثم خرج بها يقود بعيره، فما رآه رجال من بني المغيرة حتى قاموا إليه، فقالوا له: هذه نفسك غلبتنا عليها.. أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد؟ قالت أم سلمة: فنزعوا خطام البعير من يده وأخذوني منه قالت: وغضب بنو الأسد رهط أبي سلمة وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا!! وتجاذبوا سلمة الطفل بينهم حتى خلعوا يده، و انطلق به بنو عبد الأسد وحبسني بنو المغيرة عندهم وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة.
فتصوروا حالة ذلك الأب يتقدَّم به المسير وقد انتزعت منه زوجه، وقد ترك ولده مخلوع اليد بعيداً عن أمه، ويتقدم به المسير فيدوس في كل خطوة على مشاعره وأحاسيسه، ولكن لابد للمؤمن أن يرتفع فوق المشاعر وفوق العواطف، وأن يسير في الطريق الصعب، ويمضي مهاجراً إلى الله ورسوله فمن يطيق مثل هذا الموقف؟ ومن يتصرف تصرف أبي سلمة؟! إنها النفوس التي تحسم الصراع لحساب الإيمان وليس على حسابه، فتختار الإيمان على الولد والزوج وتمضي مهاجرة إلى الله تعالى.
وانظروا إلى موقف المرأة المسلمة ذلك هو موقف أم سلمة؟!إنها لم تتشبَّث بزوجها لتعوقه عن انطلاقته المهاجرة إلى الله تعالى !! ليتحمَّل معها الأوصاب والآلام، وليكون بجوارها في محنتها مع طفلها. لقد تركته يسير واحتملت المعاناة والألم وحدها صابرة محتسبة!!ورضيت بما هي فيه واثقة بنصر الله.
ولقد عاشت في بيته وطفلها في بيت آخر، واحتملت مشهد الصراع على الطفل، ورأت بعينها ما حدث لذراعه!! ثم تعيش تلك الفترة مع الدموع و الحسرات!! تخرجُ كلَّ يومٍ إلى البطحاء تبكي لعلها تصادف قلباً رحيماً من قومها وما تزال على ذلك حتى تعود مع المساء!! وهكذا حتى انجلت الغمَّة فأفرجوا عنها وأطلقوها تهاجر مع طفلها، وتركوها تسير في طريق مخوف ومفاوز قاسية! وهاهي ذي تسير على درب طويل شاق، لتلحق بزوجها، وتظل هذه القصة الخالدة تمنح القدوة وتعطي الدرس لكل امرأة في الحياة، تعلمها كيف تكون التضحية في سبيل العقيدة!! ولتعرف كيف كانت أم سلمة تضحي!! ولو أنَّ موظفاً نقل إلى بلد بعيد بعض الشيء ثم طلب إلى زوجه أن تنتظر شهراً ريثما يستأجر سكناً ويُعد أثاثاً.. لرفضت وأصرَّت على أن تتشبَّث به وتتعلق بذراعه حتى يأخذها على مضض ويمضي بها ! فأين هذه من أم سلمة رضي الله عنها ؟!
ولقد كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ترك وراء ظهره المال... فهذا صهيب الرومي رضي الله عنه حين أراد الهجرة خرج وراءه رجالٌ من قريش، و أرادوا أن يقبضوا عليه، ليحولوا بينه وبين الهجرة، فلما أدركوه قالوا له: لقد أتيتنا صعلوكاً حقيراً لا مال لك، فكثُر مالك وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تنطلق بمالك ونفسك!! والله لا يكون ذلك؟!
فقال لهم صهيب في كرم المؤمن وثقته بربه: أريتم إن جعلت لكم مالي... أتخلون سبيل؟ قالوا: نعم. فدلهم على ماله بمكة، قال: قد جعلت لكم مالي!! فتركوه يمضي، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ربح صهيب، ربح صهيب!!
لقد ربح صهيب ولقد خسر أناس يبيعون الحق بالمال، أو بالمنصب لقد خسروا جميعاً إنهم لم يستطيعوا أن يربحوا القلوب المؤمنة ورضا الله يوم القيامة.
يا شباب! إن طريقكم طريقٌ متميز على رأسه محمد صلى الله عليه وسلم ولا يمكن لمؤمن ولا مسلم أن يسير على طريقٍ آخر غيرِ هذا الطريق ولا يمكن أن يسلم قياده لغير محمد صلى الله عليه وسلم.
إن طريق الإسلام طريق متميِّز وسنسير فيه إن شاء الله رغم صعوبته ورغم مخاطره، أما الذين يريدون أن يكون الإسلام سلماً يمتطونه للكسب وللمناصب فهم ليسوا منا ولسنا منهم، قلوبنا غير قلوبهم، ويقيننا غير شكهم، وهدفنا غير هدفهم، إننا لا نطلب في هذه الحياة مالاً ولا منصباً. فإذا كتب لنا النصر حمدناه، وإذا كتب لنا الشهادة ازددنا له حمداً.
وليت الذين يفتنهم المال وتغريهم المادة أن يأخذوا درسا من صهيب حيث كانت هجرته هجراً للغنى ورضاً بالفقر، وإيثاراً للفاقة والحرمان مع العقيدة، على النعم والرفاه مع الجاهلية، فكيف بالذين تغريهم المادة، ويفتنهم المال فيغرقون في بهرج الحياة الدنيا، ويركنون إلى طيباتها، ويرضون بأطايبها ويأنسون بالمال والراحة عن كل ما عدا ذلك، فينسون عقيدتهم ودعوتهم، ويديرون ظهورهم لإخوانهم في طريق الدعوة إلى الله، إنهم حين يستسلمون إلى هذه الحياة الدنيا يسقطون في طريق المحنة، ويرتكسون في حمأة الجاهلية، ويقتربون من صور النفاق، ويبتعدون عن درب الرشاد.
إن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت نصراً حاسماً لأن المسلمين قد حققوا فيها انتصارهم على روابط الأرض وروابط العشيرة وروابط المال... إن هجرتهم قطعت بينهم وبين دنيا الكفر ولو كانوا من أولي القربى، وصاغت حياتهم على أساس العقيدة الإسلامية.
فهناك إذاً وشيجة واحدة هي العقيدة تربط الناس في الله فإذا قطعت هذه الوشيجة فلا صلة ولا مودة:[لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ] {المجادلة:22}.
وهناك طريق واحد يصل إلى الله تعالى وكل طريق آخر لا يؤدي إليه: [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ] {الأنعام:153}.
وهناك نظام واحد هو النظام الإسلامي وما عداه من النظم فهو جاهلية:[أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] {المائدة:50}.
وهناك شريعة واحدة هي شريعة الله وما عداها فهو هوى:[ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ] {الجاثية:18}.
وهناك حقٌ واحدٌ لا يتعدد وما عداه فهو الباطل:[إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] {الأنفال:72}. ورحم الله القائل:
ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً               الشام فيه ووادي النيل سيان
وكلما ذكر اسم الله في بلد                             عددت أرجاءه من لب أوطاني
إن هجرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ وضحت لنا أن وطن المؤمن ليس بلداً خاصاً محدوداً بحواجز، أو محاطاً بأسوار أو محصوراً في بقعة من الأرض، فذلك هو ما تجتمع عليه البهائم من أرض وكلأ وماء وسياج! أما المؤمن فوطنه الحق حيث تعز عقيدته، فعقيدة المؤمن هي الوطن والسكن والأهل، فإذا لم تكن العقيدة فلا قيمة لوطن ولا سكن ولا أهل ولا جوار، بل لا قيمة للحياة كلها!
 أعود فأقول: إن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت نصراً حاسماً لأن المسلمين قد حققوا فيها انتصارهم على روابط الأرض وروابط العشرة وروابط المال... لقد ارتفعوا فوق كل هذه الروابط وأصبحوا عقيدة خالصة ورسالة ظاهرة، فاستطاعوا بعد أن حققوا النصر بكل سهولة ويسر أن يربحوا المعارك معركة بعد معركة، وأن يزيحوا دولة الفرس ودولة الروم، واستطاعوا أن يقيموا للدنيا دولة الإسلام، و دولة العقيدة، ودولة الشريعة، دولة الحق والعدالة والأخلاق، ودولة النظام الاجتماعي والاقتصادي الشامل، الدولة التي قدمت للعالم ما قدمت، الدولة التي يريد بعض المغرورين أن يديروا لها الظهور فيديرون في الوقت نفسه ظهورهم للحق وللعدالة وللشعب.
لقد استطاع المسلمون أن يحققوا النصر لأنهم حققوا النصر في أنفسهم، ولأنهم كانوا مسلمين حقاً، لقد حققوا معاني الإسلام في وجودهم، ونحن الآن في هذا العصر الذي نعيش فيه نقف كما وقف الرسول صلى الله عليه وسلم أمام قوى من قوى الكفر والإلحاد، وأمام قوىً من قوى الفساد والاستعباد يحاربنا الاستعمار والتبشير، ويحاربنا الذين صنعهم الاستعمار على عينه فصل ما بينهم وبين عقيدتهم، وبين أمتهم، وبين تاريخهم، وجعلهم أتباعاً لعقائد أخرى، ومذاهب أخرى.
يحاربنا أيضاً العملاء الأجراء الذين يتقاضون المال من المجرمين ليؤذوا دعوة الحق، تحاربنا كلُ هذه القوى، يحاربنا أيضاً الانحلال والفساد المستشري، يحاربنا كل شيء لاصق في الأرض ونحن نريد أن نرتفع بالأمة إلى السماء فكيف نربح المعركة؟!
 إننا لا نخاف القوى الخارجية أبداً إنها تشكل عقبات ولكنها ليست هي العقبات التي نخاف... إننا نستطيع أن ننتصر على ذلك كله بشرطٍ واحد، أن ننتصر على أنفسنا، بشرطٍ واحد أن نكون مع ربنا، أن نحرز النصر الذي أحرزه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقت الهجرة...
يا أتباع نبي الهجرة صلى الله عليه وسلم: يجب أن لا ننتظر أن تقوم دولةُ الإسلام لنكون مسلمين: ولكن يجب أن نكون مسلمين لتقوم دولةًُ الإسلام، هذه هي النقطة وهذا هو الطريق.
وإننا ما نزال ننتظر الطليعة المؤمنة الصادقة الواعية التي ترتفع فتتحرر من أوهان الأرض وترتفع فوق الطغاة والجبابرة وترتفع حتى تكون أهلاً لحمل لواء الإسلام.
إننا نخوض في هذه المرحلة المعركتين: أدناهما وأقلهما معركةٌ نخوضها ضد الخصم الخارجي وأهمها وأشدُّهما وأخطرهما معركة نخوضها لنصنع الجيل المؤمن، الذي يسلم قلبه وفكره وسلوكه لربه ثم ينطلق ليكون سهماً من سهام القدر:[فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] {الأنفال:17
المراجع:
1 ـ خطبة صوتية للأستاذ عصام العطار في مسجد جامعة دمشق
2 ـ أضواء على الهجرة.
3 ـ الظلال

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين