في ذكرى المولد، سيرتُهُ صلى الله عليه وسلم مدرسة الثورة والدولة

 

نتعلّم من النبيّ صلى الله عليه وسلم نمط حياة. نسترشد بسيرته في كلّ صغيرةٍ وكبيرةٍ من حياتنا. نحن في حاجة إلى مراجعة مفاصل سيرته، والوقوف عند أمّهات أخلاقه لنعيش بها في حياتنا.

 

سيرتُهُ صلى الله عليه وسلم تعلّمنا طلب العلم والحرص عليه، يوم أن جعل فداء أسرى المشركين تعليمهم لعشرة من أولاد المسلمين القراءة والكتابة. تُعلّمنا طلب العلم يوم أن أمر الصحابة بكتابة آيات القرءان، العلم نورٌ والجهل انطماس البصيرة، ولا شيء يفتك بالثورة كالجهل!

 

سيرتُهُ تُصبّرنا:

 

ولد صلى الله عليه وسلم يتيمًا ونشأ ليس له أخٌ ولا أختٌ ولا أبٌ ولا أمّ لكنّه استطاع أن يغيّر العالم كلّه، تعرّض لصنوف الابتلاء ... حوصر في بلده من أهله وعشيرته حصارًا مريرًا ... هُجّر من بلده ... تآمر عليه المنافقون واليهود ومن حولهم من أعراب المدينة الذين مردوا على النفاق، لم يزده ذلك إلاّ إصرارًا على دعوته، وانتصارًا لقضيّته، يوصي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالصبر، (صبرًا آل ياسر) وما كانت عاقبة صبره إلاّ خيرًا (إنّ مع العسر يسرا). إذا كان حبيب ربّ العالمين وصفوة الخلق أجمعين قد تعرّض لكلّ ذلك، فلم يستكثر المُصابون المبتلون ما يُصيبهم؟ وإذا كانت عاقبة الصبر تمكين وانتصار فما أحوجنا إلى الصبر نتعلّمه من سيرته في فصولها كلّها.

 

سيرتُهُ تحفّزنا:

 

حين كان صلى الله عليه وسلم يرى بؤس بعض أصحابه واقترابهم من مرحلة اليأس كان يقول لهم: (ولكنّكم تستعجلون) (والله ليتمّن الله هذا الأمر)، يُبشّر أصحابه بالجنّة (من آمن بالله وبرسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة)، حين كان يرى انهزام المسلمين في معركة وهم يحسبون أنّهم فرّار فرّوا من قتال أعداء الله كان يقول لهم: (أنتم الكرّار)، لا يُثبّط مجاهدًا. يلجأ إلى الله تعالى في الشدائد، لأنّه يعلم أنّ بيده مقاليد الأمور (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعبد في الآرض).

 

سيرتُهُ تثبّتنا:

 

حين يشتدّ البلاء كان صلى الله عليه وسلم يقف في وسط الجيش يقول: (أنا النبيّ لا كذب أنا ابن عبد المطّلب)، كان حين يرى أعداءه فوق رأسه يقول: (يا أبا بكر ما ظنّك باثنين، الله ثالثهما)، حين يُسأل من يمنعك منّي يقول: (الله)، حين يُفاوَضُ على أن يُعطى من المال أو يُمنح من المناصب ويختار من النساء كان يقول: ( يا عم ، والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته). لا يُساوَم على حقٍّ يراه!

 

سيرتُهُ تؤاخينا:

 

كان صلى الله عليه وسلم يُرشد أصحابه إلى مفاهيم متعلّقة بالأخوّة، كان أوّل ما قام به بعد هجرته المباركة أن آخى بين المهاجرين والأنصار في المدينة، قال عن أبي بكر: (ولكن أخي وصاحبي) وقال عن إخوانه الذين آمنوا به ولم يروه (وددت أنّي رأيت إخواني)، كان صلى الله عليه وسلم يثبّت معاني الأخوّة حين يرفض الإقصاء والتمييز (أعيّرته بأمّه إنّك امرؤ فيك جاهليّة)، يُثبّت معاني الأخوّة الدينيّة بالولاء للمؤمنين وإن كان المؤمن روميًّا أو فارسيًّا (سلمان منّا أهل البيت)، ومن انتسب إلى الإسلام ظاهرًا قَبِلَ ذلك منه وإن علم مروقه من الدين (لو علمت أنّي إن زدت على السبعين غفر له لزدت). لا يتربّص بالمسلمين المجاهدين الدوائر، ولا يسعى لإبراز الأخطاء والعثرات!

 

سيرتُهُ تُزكّي نفوسنا:

 

كان يعفو عمّن أساء، شأنُهُ الصفح، رؤوف بالمؤمنين رحيم، لمن اتّبعه يخفضُ جناحَهُ، لم ينهر خادمًا، ولم يُعنّف امرأةً ولا صبيًّا، يصفح عمّن أخطأ في حقّ نفسِهِ، فإذا انتُهكت محارم الله كان أشدّ الناس غضبًا، يعلّم أصحابه ألاّ يثأروا لأنفسهم، أو لقبائلهم (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنّها منتنة!) أرشدهم أنّ من طرق دخول الجنّة سلامة الصدر، دلّ على رجلٍ من أهل الجنّة شأنُهُ كما قال (لا أبيتُ وفي قلبي غشٌّ على أحدٍ من المسلمين)، يستحي من المؤمنين (إنّ ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم)، يأبى أن يتعرّض أحدٌ من أمّته لأذى بسببه في الآخرة: (اللَّهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَر فَأَيّ الْمُسْلِمِينَ لَعَنْته أَوْ سَبَبْته فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاة وَأَجْرًا). لا يقبل الشفاعة في حدٍّ من حدود الله تعالى. بالتعرّف إلى خصاله نستطيع أن نسير في مراحل الثورة وبناء الدولة، وبغياب التزكية لنفوسنا نتعثّر في حياتنا كلّها.

 

سيرتُهُ تعلّمنا بناء الدولة على الأخلاق:

 

لم تتوقّف سيرتُهُ صلّى الله عليه وسلّم عند الدعوة حتّى آل حالُهُ إلى إنشاء الدولة، دولة أسّست على بيعة العقبة، بايعوه على الموت، وأن يمنعوه ممّا يمنعون منه أنفسهم وأبناءهم، فشاورهم لمّا أراد أن يخرج بهم خارج حدودهم، فقالوا له: (فوالذي بعثك بالحقِّ لو خُضتَ بنا هذا البحر لخُضْناهُ معك ما تخلّف منّا رجلٌ واحد، وما نكرَهُ أن تلقَى عدوّنا غدًا. إنّا لصُبر في الحرب، صُدق في اللقاء. ولعلّ الله يريك ما تقرّ به عينك؛ فسر بنا على بركة الله)، بنى دولته في غير مكان ولادته ليعلّمنا أنّ الانتماء للدين أعظم من الانتماء الجغرافيّ، أسّس المسجد ليكون أوّل بناء في الدولة، ليرشدنا إلى أنّ الدولة تقوم على الدين، والمسجد عنوان هذا الدين.

 

سيرتُهُ تعلّمنا التدرّج في بناء الدولة:

 

كان صلى الله عليه وسلم يُعاهد يهود حين قدومه المدينة ثمّ أجلاهم عنها لنقضهم العهود والمواثيق! راسل الملوك والقياصرة والكياسرة، الذين لم يكن يجرؤ العرب حتّى على مقابلتهم، أناب عنه على المدينة حين كان يخرج منها نائبًا عنه يقوم بشؤون الأمّة والدولة. بدأ بقبول الصلح يوم الحديبية ثمّ فتح مكّة، أقام دعائم دولة الإسلام على عقيدةٍ تربط بين أبنائها، كانت التربية أساس الدولة، ولم تكن الدولة سببا لدخول الناس في الإسلام أو إجبارٍ على اعتناق دينٍ. وحين تكالب الأعداء على الدولة الوليدة يوم الأحزاب لجأ إلى حيلةٍ وخدعة في الحرب وتخذيل، بعد اعتماده على الله تعالى في ذلك كلّه. ترك سبل الحكم وآليّاته متاحةً أمام المسلمين فلم يحدّد شكل الحكم، وآلية اختيار الخليفة من بعده ليفتح أمام الأمّة إمكانيّة حكم العالم في كلّ وقت بحسب الآليّات المتاحة.

 

سيرتُهُ عزّةٌ في الثورة والدولة:

 

كان عزيزًا في مراحل حياته الشريفة، لم ينحنِ أمام الكافرين ولم يخضع لهم حين ساوموه على دينه ومبادئه، لتثبيت الله له الذي عصمه الله به حتّى من الركون إليهم شيئًا قليلا، وكيف يركن إليهم وهو المعتمد على ربّه ذي الجلال، وهو يعلم أنّ له العزّة (ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين). أقام دعوته على مناهضة الظلم فأعزّ الله به المظلومين من العبيد والنساء. كان الأعزّ الذي أخرج الله به الأذلّ من المنافقين من المدينة، لكنّ عزّته لم تكن سبيلاً لطغيانٍ أو بابا لتسلّط. عزّتُهُ في بناء الدولة وسياستها وتوسيعها لم تكن لتدفعه إلى اقتحام بلادٍ دون دعوة أهلها.

 

تعلّم سيرتُهُ فرضٌ:

 

(أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون)؟ أمّة لا تعرف سيرة نبيّها لا يُمكن أن تقتدي به، والاقتداء به واجب، (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)، أفما آن لنا نتعلّم سيرته ونتدارسها ونعتبر بما فيها لنقدي به ... أما آن لنا أن نعلّمها أبناءنا ليتربّوا على سيرته العطرة؟

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين