في ذكرى المجزرة الكبرى في داريا

مؤسسة زيد بن ثابت

سموها المجزرة الكبرى أفتراها تنتصر الثورة، وهي محافظة على هذا الاسم الذي غدا نسبياً لشدة تواتر المحن؟ 

في عيدها الثوري الثاني أفطرت مدينة داريا في يومها الأول على تكبيرات تعالت من مآذنها الشامخة الكثيرة....ابتهج الأهالي بمدينتهم التي لم يدخلها جنود النظام في ذاك العيد....أنهوا صلاة العيد فتعانقوا ....ودعوا دعاءهم المشهور :إن شاء الله العيد الجاي منكون فراحنين بسقوطه ....لا يحبون حتى ذكر اسمه....بقلوب ملؤها الحزن والمحبة توجهوا أفواجاً إلى المقابر التي ألبستها النساء حليها الخضراء قبل يوم ....كل العرائس تحب الزينة يوم العيد....زاروا أمواتهم ....وتصافحوا بين القبور، وعن النفوس لا تغيب الحقيقة....بعضنا يزور هذا المكان ....لكننا كلنا سنرغم أخيراً على الإقامة فيه....

على الجهة الأخرى من المدينة....لبست المقبرة الجديدة التي أقيمت قبورها على السنة النبوية ثوباً جديداً....لكنه مختلف ....ألبسوها ثياباً بيضاء من الورد والزهور....وتحلقوا ببن قبورها المصفوفة ....التي غدت روضة من الجنان ....لقد أسموها مقبرة الشهداء ...

كل قبر له قصة وحكايةٌ....يحفظها أبو صياح الذي تعهد بدفن الشهداء جميعاً في صدره كما يحفظ الفاتحة....قرؤوا سورة ياسين والفاتحة وبعض الأدعية...وانصرفوا تتصارع في نفوسهم مشاعر الحزن والفرح....مضى اليوم الأول من العيد كلحظة حب غامرة سعيدة....لكنها سريعة....تزاور فيه الصحاب....اجتمعوا في المساجد....خططوا لمشاريع رائعة....أكلوا الفول النابت مع المرق الساخن....وفي جعبة القدر ما ينتظرهم أشياء وأشياء...

في صباح اليوم الثاني أفاقت المدينة على أصوات جنونية من جهة معضمية الشام....اعتادت المدينة على قذائف الهاون التي أصبحت لها خبزاً يومياً لكن تلك الأصوات لم تكن كذلك....خرج الناس إلى الشوراع  فرؤوا أفواجاً من النساء والأطفال محملين بالسيارات أو يتراكضون في الشوارع يبحثون عن ملجأ....فتحت لهم البيوت...وأعد لهم الفطور ...من أين القوم ؟ من المعضمية....إنها تباد من الصباح....

شباب الحر أمام خيارين أحلاهما مر! إما أن يتركوا مدينة المعضمية الصغيرة المحاصرة من جهاتها الثلاثة بالشبيحة لقمة سائغة للنظام....ومن ثمّ يدلف إليهم... وإما أن يساندوها فيعلنوا الحرب على مدينتهم....لم يختاروا الخيار الثاني لكنهم وجدوا أنفسهم ...أمام أسوار المدينة ييقاخون بالدبابات بالبنادق....حوصرت المدينة من كل الجهات ....جبهة المعضمية حكي عن صمودها أساطير....قال محمد الذي جاء منها متصوباً : لقد دمر الشباب أربع دبابات....الناس في الداخل يحدوهم الخوف والأمل ....بعضهم أراد الخروج، فنجا...وبعضهم أعدم على الحواجز ....جلهم بقي ينتظر القدر....والنفوس تجأر بالدعاء ...

قصفت المدينة لخمسة أيام متواصلة....كل شيء ينذر بأن القيامة قد قامت ....مبانٍ كاملة دمّرت....كانوا يستخدمون نطام القصف في الشرائح....أصوات الصواريخ تسمع لحظة انطلاقها من قاعدتها فترتجف القلوب....ويحسم ملك الموت اختياره المجهول....ويتلفظ أهل المدينة كلهم بالتشهد....ثم يهرع من بقي منهم إلى مكان السقوط....أعداد المصابين لم تستطع المدرسة التي تحولت إلى مشفى أن تستوعبها....كثير من المصابين تبتر أيديهم أو أرجلهم ....وبعضهم يموتون لعدم توفر غرفة العمليات ....تخاذل معظم الأطباء الذين كانوا يأخذون الأموال الطائلة من أهل المدينة...بقي منهم ثلة ستحفر أسماؤهم بمداد من ذهب في كل القلوب....

منظر الأطفال وهي تصارع الموت لا يحتمل ....طفل كان هارباً مع أمه وأخته من بيته إلى الملجأ فاصطاد العائلة شظايا من صاروخ شارد ....جسمه الناعم كاد يتمزق.... كان يصرخ قائلاً لأمه: ماما أنا ما فيني شيء ...بس أنت صحي ....غابت أمه عن الدنيا ...وهو يصرخ! 

في مساء اليوم الخامس أمرت القيادة الشباب بالانسحاب من المدينة في ظروف ما زال يدور الخلاف فيها حتى اليوم....رفض كثير منهم ...ثم اضطروا أمام الواقع ...قالت القيادة إن الانسحاب كان حرصاً على أرواح المدنيين ...

حاصرت قوات النظام المدينة المحاصرة من كل صوب....تقدمت بعد تطهير المدى بقذائف الدبابات ....تهامس الناس بمجازر ترتكب في المدينة ....في صباح السبت فجعوا بمئة وخمسين شهيداً أعدموا في قبو المسجد بدم بارد ....حملات التفتيش لم تستثن بيتاً ....هرب الشباب وبقي النساء والشيوخ الأطفال....سيارات الزيل لم تتوقف عن السرقة والنهب.... حتى مكامير الأطفال....

في صباح يوم السبت تقاطر الشباب كلهم إلى البساتين ...كانت الرشاشات تصطادهم كالغزلان النافرة ...دفن كثير منهم في السواقي والأقنية ....من نجا منهم في المساء روى الأعاجيب....

في صباح الأحد مجزرة جديدة هزت وجدان الناس ... وحولتهم إلى مجانين يفتشون بين الجثث المتكومة عمن غابوا عن البيوت...السجناء في الجوية لم يأتهم هذه المرة زوار....كل من اعتقلوها قتلوه في مكانه....بعد ٣ أيام فجع الناس بفيلم مجدولين التي جاءت لترقص على الجثث والدماء ....كاد الألم يشق الصدور ....في كل بيت شهيد أو مصاب أو دمار....بعض البيوت ذهب كل شبابها....لا تفارق كل أهل المدينة صورة الأم التي ماتت وهي تحتضن ولدها....أما المرأة التي صورها إعلام النظام وهي في المقبرة فاقدة للوعي فماتت بعد أيام....

استمرت المدينة في صمودها....اختلط عنبها الأحمر بدمائها....قبل ذكرى مجزرتها بأيام....زارها رأس النظام ليبث دماً جديداً في القلوب الواجفة ....أراد أن يتلفظ باسمها المقدّس فتعثرت منه الكلمات....مضى إلى جحره ...ومازالت المدينة تسطر البطولات بمداد من دماء.....

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين