في ذكرى الثورة العاشرة: تحيّة لحَمَلة مشعل الحرية

في الخامس والعشرين من آذار 2011، في "جمعة العزة"، فتحت عصاباتُ الأمن في الصنمين النارَ على المظاهرات السلمية في المدينة فسقط جرحى وقتلى كثيرون وبلغ عدد الشهداء ثلاثة وعشرين. كانت تلك أوّلَ حادثة قتل جماعي في الثورة السورية العظيمة، وكان أولئك الشهداء السعداء من أسبق شهداء الثورة إلى جنان الخلد (بإذن الله الكريم المَنّان).

يومَها لم يكن أهل الثورة قد ألِفوا بعدُ مشاهد القتل والدماء، فلما أدركوا شهيداً يلفظ أنفاسه ظهرت في وجوه بعضهم لوعة وشفقة، فتبسّم الشهيد أحلى ابتسامة يمكن أن يبتسمها إنسان ثم طمأنهم وهو يَجود بنفسه مودِّعاً الدنيا فقال: لا تأسفوا، لقد كانت هذه أجملَ سبعة أيام في حياتي!

رحمه الله، ورحم الله كل شهداء الثورة، المتقدمين منهم والمتأخرين، ويا لَحظّهم العظيم، حظهم بالشهادة التي نالوها وبالسعادة التي حصلوا عليها وهم يشاركون الثورة في خطواتها الأولى على الأرض.

* * *

لكل زمان أبطاله، والذين كسروا جدران الخوف وتظاهروا في أيام الثورة الأولى هم أبطال هذا الزمان بلا منازع. أولئك هم النجوم، الذين أوقدوا نار الثورة وحملوا حملها الثقيل في أيامها العصيبة المبكرة، الرجال الذين تظاهروا والذين اعتُقلوا والذين عُذّبوا والذين قُتّلوا، والنساء اللائي حملنَ الحِمْل كاملاً غيرَ منقوص، فكُنّ مع الرجال في المظاهرات والاعتصامات يوم كانت الثورة مظاهرات واعتصامات، وما أكثرَ ما تقدّمنَ الصفوف وكُنّ الفارسات المُجَلّيات في الميادين.

في هذا اليوم ونحن نُحيي ذكرى ثورتنا العظيمة نرسل تحية تقدير وإكبار للذين فجّروها وحملوا عبئها الهائل في ذلك اليوم البعيد، الذين ثاروا وليس في أيديهم قطعة من سلاح، فخرجوا إلى الشوارع قِلّةً ضَعَفةً عُزْلاً في جو كئيب مشحون بالرعب والرهبة وقالوا: توقف أيها الطاغية عن الطغيان، لقد آن لهدم عرشك الأوان.

لم يقولوها همساً بين أربعة حيطان، إنما هتفوا بها بأعلى الصوت حتى تشققت منها الحناجر فبلغت عنان السماء، وبلغ من قوّتها أن أفاق منها شعبٌ أمضى في الرُّقاد نصفَ قرن مستسلماً للذل والاستعباد والهوان، فهتف الهاتفون مع الهاتفين: نعم، لن نسكت بعد اليوم، نموت ولا نعيش يوماً واحداً آخَرَ في الذل والاستعباد والهوان.

* * *

ما غبطت أحداً على شيء كما غبطت المتظاهرين الذين خرجوا إلى الشوارع في أيام الثورة المبكرة فقطعوا على أقدامهم الأمتارَ القليلة الأولى في طريق الحرية، طريقٍ طال حتى بلغ طولُه ألفَ ميل وازدحم فيه السائرون حتى بلغوا عشرة آلاف ألف إنسان، ولكن الأميال اللاحقات لا تشبه أولى الخطوات وأولئك الملايين لا يشبهون تلك القلة المختارة من ثوارنا الأوائل العِظام، وفي كل خير.

الأولون والآخِرون من أهل الثورة، الذين أوقدوا نارها أولاً والذين حملوا مشعلها من بعدُ ومشوا به المشوار الطويل فأبقوه وقّاداً وهم يعيشون في قلب الإعصار، هؤلاء جميعاً يجدّدون اليوم العهد رغم الجراحات والآلام. لقد كانوا حَمَلة الثورة وحاضنتها وما يزالون، وكانوا هم الأملَ الأكبر في هدم عرش الاستبداد والطغيان، وما يزالون هم الأملَ الأكبر بعد الله رب العالمين.

اللهم ارحم من مضى من أهل الثورة وامنح من بقي منهم الصبرَ والعزيمة لتكملة الطريق، وانصر -اللهمّ- ثورة الغرباء، الثورة التي تخلى عنها الشرق والغرب وخذلها القريب والبعيد وتنكّر لها العدو والصديق، الثورة التي انقطع أملها في أهل الأرض ولم يبقَ لها أمل ورجاء إلا فيك يا رب العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين