في بيت النبوة

هل تدركون معنى أن يُنشر في الصحف، وبالتفصيل، وصفٌ لكلّ ما يجري في بيت أحدنا، فيقرأه الناس، ويطّلع عليه القاصي والداني؟

هذا ما سمح به رسول الله (ص) لنفسه، وسمح به لأزواجه، وعلى رأسهنّ من كانت أقربَهنّ إليه، السيّدة عائشة، وسمح به كذلك لخادمه أنس بن مالك، ولآخرين من أقاربه، بحيث يكون هذا الوصف وهذه التقارير المنزليّة مدرسةً للأمّة على مدار الدهر، يتَهَجَّون فيها أبجديّة حياة نبيّهم داخل بيته، ومع أقرب الناس إليه، كما وجّهته السماء خطوةً خطوة، لتكون هذه المدرسة أنموذجاً ومثالاً للعالمين؟

إنّها فُرصةٌ لم تُتَحْ لأتباعِ أي نبيٍّ من الأنبياء. لقد كان من حكمة السماء أن تتزوّج السيّدة عائشة من النبيّ (ص) وبوحيٍ من السماء، وهي في سنٍّ صغيرة، فكأنّها كانت تُعِدُّها لتروي للناس من بعده، وعلى مدى ما يقرب من نصف قرنٍ بعد وفاته (توفّيت عام 58 ه)، تفاصيلَ حياته اليوميّة، في بيته، ومع أهله وأسرته. وهل هناك في مجتمعنا وتربيتنا وبناء حضارتنا ما هو أهمّ من تلك الخليّة الأساسيّة لأيّ مجتمع، وهي التي إن صَلُحتْ صَلُحَ البناءُ كلُّه، وإن انهارت انهار البناء كلّه: الأسرة؟

إنّ أهمّ ما يشدّ أنظارنا وقلوبنا إلى حياته (ص) داخل بيته؛ هو تلك الواقعيّة الآسرة التي كان يتعامل بها مع أفراد أسرته، وقد عوّدهم على أن يتعاملوا معه بمثلها، فلا يشعروا بتلك الفجوة التي يمكن أن تفصلهم عن شريكٍ غير عاديٍّ مطلقاً؛ يعيش معهم ويتحرّك بينهم، ولكنّه يختلف عنهم كثيراً: إنّه رسول الله!

اختلافٌ ليس باليسير، وقد ينغّص على أفراد الأسرة حياتَهم إذا لم يتمثّلوه تمثُّلاً حكيماً. فالمبالغة في الاحترام، والمبالغة في التقديس، والمبالغة في حساب كلّ كلمةٍ يقولونها، وكلّ تصرّفٍ يصدر عنهم، هذا كلّه من شأنه أن يتحوّل إلى حاجزٍ نفسيٍّ خطيرٍ يحول بينهم وبين أن يعيشوا، وفي بيتهم نبيّ، حياةً طبيعيّةً يستمتعون بها مثل بقيّة الناس.

والواقع أنّ النبيّ (ص) كان حريصاً في كل مظاهر حياته وعلاقاته مع البشر، وليس مع أسرته فحسب، أن يُشعرهم بأنّهم يتعاملون مع إنسانٍ مثلِهم لا يختلف عنهم في شيء، إلّا بالوحي الذي يتلقّاه من السماء، وهذا ما كان يؤكّده لهم دائماً، كما سبق أن رأينا، وأكّدته لهم السماء في أكثر من مناسبة، وفي أكثر من آية:

-       قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إلّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ [الأنعام: 50]

-       قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ [الكهف: 110]

ويجب أن نعترف، وقد فصَلَنا عنه الآن أربعة عشر قرناً، أنّ الأمر ليس مجرّد اختلافٍ يسيرٍ يسهل أن تُقنع به الآخرين من حولك. إنّهم، مهما حاولوا اختصار المسافات، يعرفون أنّهم يقفون أمام نبيّ، وأنّه على اتصالٍ مباشرٍ ومستمرٍّ مع السماء، وأنّه قادرٌ على اجتراح المعجزات والإتيان بما لا يأتيه البشر، رغم أنه لا يفتأ، وبواقعيّةٍ عجيبة، يذكّرهم ببشريّته، وينهاهم عن المبالغة في مدحه وعن إضفاء الألقاب عليه، وعن مخاطبته بأي لقبٍ آخر غير لقب النبوّة، كما عرفنا في أحاديث عديدة.

لقد كان في حاجةٍ مستمرّة، كيما يظلّ على صلةٍ طبيعيّةٍ وبشريّةٍ مع أفراد أسرته، ومن ثمّ، مع سائر الناس، إلى التذكير باستمرار بحقيقته البشريّة. وهكذا جاءت علاقاته الخارجيّة مع الآخرين، في واقعيّتها وبساطتها، انعكاساً لعلاقاته الداخليّة مع أفراد أسرته.

وانطلاقاً من هذه "الواقعيّة البشريّة النبويّة" كان الرسول (ص) نموذجاً للمرونة والاعتدال واليسر. وكان يأمر أتباعه دائماً، كما تنقل لنا السيّدة عائشة، بالاعتدال في كلّ شيء، حتّى في العبادة، استناداً إلى المبدأ القرآنيّ "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَهَا" [البقرة: 286]، فلا يترك مناسبةً إلّا ويذكّرهم بهذه القاعدة الأساسيّة في الإسلام:

-       عن عائشةَ أمِّ المؤمنين قالت: قالَ رسولُ اللهِ (ص): "يا أيّها الناسُ، عليكم مِنَ الأعمالِ ما تُطيقون، فإنّ اللهَ لا يَمَلُّ حتّى تَمَلّوا، وإنَّ أحَبَّ الأعمالِ إلى الله ما دُووِمَ عليه وإنْ قَلّ". [متّفق عليه]

-       عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ قَال: "سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ (ص)، كَيْفَ كَانَ يُوتِر، مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ أَوْ مِنْ آخِرِهِ؟ فَقَالَتْ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ يَصْنَعُ، رُبَّمَا أَوْتَرَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْل، وَرُبَّمَا أَوْتَرَ مِنْ آخِرِه. فَقُلْتُ – أي لنَفْسي – الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الأَمْرِ سَعَةً. فَقُلْت: كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَتُه، أَكَانَ يُسِرُّ بِالْقِرَاءَةِ أَمْ يَجْهَر؟ قَالَتْ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ يَفْعَل، قَدْ كَانَ رُبَّمَا أَسَرَّ، وَرُبَّمَا جَهَر. قَال: فَقُلْتُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الأَمْرِ سَعَةً. قُلْت: فَكَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ فِي الْجَنَابَة، أَكَانَ يَغْتَسِلُ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ، أَوْ يَنَامُ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِل؟ قَالَتْ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ يَفْعَل، فَرُبَّمَا اغْتَسَلَ فَنَامَ، وَرُبَّمَا تَوَضَّأَ فَنَام. قُلْتُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الأَمْرِ سَعَةً". [رواه التِّرمِذي، وصحّحه الألباني]

-       عن أنسِ بنِ مالكٍ قال: "جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ – أي رجالٍ – إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النبيِّ يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النبيِّ (ص)، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا – أي وجدوها أقلَّ ممّا كانوا يتوقّعون –، فَقالوا – مُسوِّغين لأنفسِهم الزيادةَ عليها –: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النبيِّ (ص)؟ قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ. قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَداً، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَداً. فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ (ص) إليهِم فَقال: أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟ أما واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي". [متّفق عليه]

كان (ص) يدعو إلى أن ينتظم هذا الخطّ الوسطيّ حياةَ المسلم كلّها، في العبادة وغيرها، فتكون صورةُ تعامله مع الناس ومع الحياة تطبيقاً عمليّاً لمبادئ الاعتدال والرفق والتيسير والتسامح.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين