في الخوفِ منْ اللهِ

الحمدُ للهِ الذي جعلَ الخائفينَ منْه في الدنيا يومَ القيامةِ آمنينَ، أحمدُه سبحانَه وتعالى وأشكرُه، وعدَ الخائفينَ منْه في الدنيا يومَ القيامةِ بالمقامِ الأمينِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، كريمٌ لا يجمعُ على عبدِه خوفينِ كما لا يجمعُ لهُ أمنينِ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، النبيُّ الناصحُ الأمينُ للمحبينَ الصادقينَ قرةَ عينٍ، اللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ على سيدِنا محمدٍ، القائلِ: ( أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ ) شطر من حديث رواه البخاري في كتاب النكاح 4675، ومثله مسلم 2487، عن أنس رضي الله عنه. وعلى آلِه وأصحابِه والتابعينَ ومنْ والاهُ.

أما بعدُ عبادَ الله: اتقُوا اللهَ واعلموا أنَّ الخوفَ منْ اللهِ الملكِ الديانِ علامةٌ على كمالِ الإيمانِ قالَ تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين}[آل عمران:175]

وأنَّ ارتكابَ السيئاتِ معَ عدمِ المبالاةِ علامةُ الخذلانِ والغضبِ منْ ربِّ العالمينَ.

والخائفُ الصادقُ هوَ الذي يحفظُ جميعَ أعضائِه منْ المخالفاتِ، فيحفظُ بصرَه منْ النظرِ المحرمِ، ويحفظُ أذنَه منْ سماعِ المحرمِ، ويحفظُ لسانَه منْ جميعِ الآفاتِ.

الخائفُ الصادقُ هوَ الذي يقومُ بامتثالِ جميعِ أوامرِ اللهِ في السرِّ والإعلانِ، امتثالاً لأمرِ مولاهُ، وطلباً لرضاهُ لينالَ منْه الأمانَ.

عبادَ اللهِ: إنَّ خوفَ العبدِ منْ اللهِ على مقدارِ معرفتِه باللهِ وقربِه منْ اللهِ، ولذلكَ كانَ الأنبياءُ والمرسلونَ، والملائكةُ أشدَّ العبادِ خوفاً منْ اللهِ، وكذلكَ الصحابةُ

خصوصاً منْهم المبشرينَ بالجنةِ، فإنَّهم معَ هذِه البشارةِ ما زالوا خائفينَ منْ اللهِ واقفينَ عندَ الكتابِ والسنةِ، هذا سيدُنا أبو بكرٍ الصديقِ المبشرِّ بالجنةِ رضي الله عنه وهوَ أفضلُ العالمينَ بعدَ النبيينَ كانَ لشدةِ خوفِه منْ اللهِ تشمُّ منْ أنفاسِه رائحةُ الكبدِ المشويِّ عندَ التحسرِ والأنينِ، وهذا سيدُنا عمرُ بنُ الخطابِ المبشرُّ بالجنةِ رضي الله عنه وكانَ براً تقياً، طاهراً نقياً، كانَ لشدةِ خوفِه منْ اللهِ يقولُ: ليتني لم أُخلق! ليتَ أمي لمْ تلدْني، ليتني لمْ أكُ شيئاً، ليتني كنْت نسياً منْسياً، وريَ أنَّه لما رجعَ رضي الله عنه منْ الشامِ إلى المدينةِ انفردَ عنْ الناسِ ليعرفَ أخبارَهم، فمرَّ بعجوزٍ في خباها فقصدَها، فقالَت – وهيَ لا تعرفُه – يا هذا ما فعلَ عمرُ؟ قالَ هوَ ذا قدْ أقبلَ منْ الشامِ، قالَت: لا جزاهُ اللهُ عني خيراً.

قالَ ويحكِ ولمْ؟ قالَت لأنَّه واللهِ ما نالَني منْ عطائِه منْذُ وليَ إلى يومِنا هذا دينارٌ ولا درهمٌ، فقالَ ويحكِ وما يدري عمرَ حالَك وأنتِ في هذا الموضعِ؟ فقالَت سبحانَ اللهِ ما ظننْت أنَّ أحداً يلي على الناسِ ولا يدري ما بينَ مشرقِها ومغربِها، قالَ فأقبلَ عمرُ وهوَ يبكي ويقولُ: واعمراه واخصوماه ! كلُّ واحدٍ أفقهُ منْك يا عمرُ، ثمَّ قالَ لها بكمْ تبيعيني ظلامَتَك منْه فإنِّي أرحمُه منْ النارِ قالَت: لا تهزأ بنا يرحمُك اللهُ.

قالَ لها عمرُ ليسَ بهزءٍ، فلمْ يزلْ بها حتى اشترى ظلامتَها بخمسةٍ وعشرينَ ديناراً، فبينا هوَ كذلكَ إذْ أقبلَ عليُ بنُ أبي طالبٍ، وابنُ مسعودٍ، فقالا: السلامُ عليكَ يا أميرَ المؤمنينَ.

فعرفَته المرأةُ حينئذٍ فوضعَت يدَها على رأسِها وقالَت: واسوأتاهُ شتمْتُ أميرَ المؤمنينَ في وجهِه ! فقالَ لها عمرٌ: لا عليكِ يرحمُك اللهِ. قالَ ثمَّ طلبَ عمرُ قطعةَ جلدٍ يكتبُ فيها فلمْ يجدْ، فقطعَ قطعةً منْ فروةٍ كانَ لبسَها، وكتبَ بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ هذا ما اشترى عمرُ منْ فلانةٍ ظلامتَها منْذُ وليَ إلى يومِنا بخمسةٍ وعشرينَ ديناراً، فما تدعي عنْد وقوفي في المحشرِ بينَ يدي اللهِ عزَّ وجلَّ فعمرُ منْه بريءٌ، شهدَ على ذلكَ عليُ بنُ أبي طالبٍ وعبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ، ثمَّ دفعَ الكتابَ إلى عليٍ وقالَ إذا أنا تقدمْتُك فاجعلها في كفني.

عبادَ اللهِ:

هذا خوفُ الطائعينَ منْ الله فكيفَ بمنْ تركَ الطاعاتِ، وارتكبَ السيئاتِ، وأنواعَ العصيانِ، فراقبوا اللهَ وتذكروا وقوفَكم بينَ يديهِ للحسابِ تنالوا منْه الألطافَ، ولمنْ خافَ مقامَ ربهِ جنتانِ، واقتدوا بالأنبياءِ والمرسلينَ والصحابةِ والتابعينَ، وعبادِ اللهِ الصالحينَ، وخافوا منْ اللهِ في هذِه الدنيا لتكونوا في الآخرةِ منْ الآمنينَ..

قالَ سيدُنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: (وَعِزَّتِي وَجَلالِي لاَ أَجْمَعُ لِعَبْدِي أَمْنَينِ وَلاَ خَوْفَينِ: إِنْ هُوَ أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ أَجْمَعُ عِبَادِي، وَإِنْ هُوَ خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ أَجْمَعُ عِبَادِي) عزاه السيوطي في الصغير 6063 لحلية أبي نعيم، عن شداد بن أوس رضي الله عنه، ورمز لضعفه، وزاد المناوي في الفيض 4/495 فقال: ورواه البزار والبيهقي، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وقالَ: ( وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ ) رواه الترمذي في كتاب الزهد 2234، ومثله ابن ماجه 4180، عن أبي ذر رضي الله عنه. وقال الترمذي: حديث حسن غريب.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين