[هذا المقال يتقاطع في بعض مفرداته مع مقال نشرته قبل أيام بعنوان: لا تُحدِثوا فجوةً بين أهل الفقه وأهل الحديث].
لا يكاد مسلم أن يتجاوز في بدء أمره مرحلة التقليد المحض، فهو يتلقى معلومات عن دينه من غير أن يعرف الدليل على أي منها. فعدد الصلوات كذا، وعدد ركعاتها كذا، ونصوم رمضان، ونمتنع عن الكذب والسرقة...
ثم يهيّئ الله تعالى له، معرفة أدلة الأحكام، بقدر ما يتحمله ذكاؤه وقدرته على الفهم والاستنباط، وبقدر همته ودأبه في تحصيل العلم، وبقدر ما يهيئه له من أساتذة وشيوخ وكتب...
ومعرفة أدلة الأحكام هذه تأتي على مراحل، فأبسطها أن يعلم أنّ ما عرفه من حُكْم كان دليله كذا، ويأتي بعدها أن يتعرف كذلك إلى دليل القول الذي يخالف ما كان قد تعلّمه من قبل، وأن يتدرّج في قراءة مناقشة الأدلة وطرق الترجيح بينها، وقواعد الأصول التي تضبط ذلك. وكلما خطا خطوة في هذا الطريق انتقل من مرحلة التقليد المحض إلى مرحلة الاتّباع الواعي.
ولا يشك مسلم بأن التزوّد بالعلم أمرٌ دعا إليه الإسلام، في مثل قول الله تعالى: (وقل: ربِّ زدني علماً). {سورة طه: 114}. وفي مثل قوله سبحانه: (قل: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون). {سورة الزمر: 9}.
والأحاديث النبوية التي تحض على العلم كثيرة مستفيضة.
وهذا الذي أذكره لا يخصّ بحوث الفقه وحدها بل يتناول بحوث التفسير والسيرة النبوية والحديث الشريف وأصول الفقه... بل ما يسمى بعلوم الآلة كالنحو والصرف والبلاغة...
وأرى أن هناك معالم ينبغي أن تسترشد بها:
1- كلما زاد اطلاعك على أدلة الحكم ومناقشة مسالك الاستدلال التي سار عليها الأئمة والعلماء... كنتَ أقدر على اختيار القول الأقوى. ولكن لا ينبغي أن يأخذك العُجب والغرور فتُسفّه الرأي الذي لم تأخذ به. بل اقتدِ بالعلماء الكبار الذين تواردت عنهم عبارة: قولنا صواب يحتمل الخطأ، وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب.
2- وكلما زادت المسائل التي تعرفت إلى أدلتها انتقلت خطوة من مرتبة المقلّد إلى مرتبة المتبع. أما أن تصل إلى مرتبة المجتهد فهذا أمر ليس مستحيلاً لكنه بعيد المنال. ويكفي أن تتذكر أن خير القرون، قرن الصحابة، لم يعرف إلا العشرات من المجتهدين، من بين نحو مئة وخمسين ألفاً من الصحابة. بل لا نكاد نذكر من مجتهدي الصحابة سوى الخلفاء الراشدين الأربعة، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن عمر، وعائشة الصدّيقة... رضي الله عنهم.
3- وستبقى هناك مسائل كثيرة كثيرة، لم يتيسّر لك الاطلاع على أدلتها، إما لضيق الوقت، أو لضعف الهمة... وستبقى فيها مقلّداً. بل إنك في المسائل التي تمكنت فيها من الأدلة ومناقشتها لم تتخلّص من التقليد كلية، فقد اعتمدت على قول المحدّثين في توثيق رجال السند، وفي الحكم على الحديث بالصحة أو الضعف، واعتمدت على أقوال علماء أصول الفقه في ترجيح قاعدة أصولية على قاعدة...
4- من المزالق الخطيرة أن تتبنّى رأياً من الآراء ثم تعمل على الانتصار له فتحشد له ما يؤيّده من أدلة قوية أو ضعيفة، وتردّ ما يخالفه من أدلة، بتضعيف ما يمكنك تضعيفه، وتأويل ما لا تستطيع تضعيفه، بل لتكنْ غايتك الانتصار للحق والصواب، ثم تطويع هواك للحق والصواب.
5- وإذا كان حديثنا فيما سبق عن ترجيح قول على قول من أقوال أهل العلم فإن هناك مسألة أشد خطراً وهي أن تتبنّى بعض الأفكار الوافدة من ثقافة أخرى، فتستحسنها ثم تلوي أعناق النصوص الشرعية لتستنطقها بما يؤيد هذه الأفكار. إنها أفكار ولدتْها أهواء قوم لا يؤمنون باللّه واليوم الآخر، وأوحت لهم بها شياطين الإنس والجن زخرف القول غروراً.
فهنا، لا بد للمسلم أن يكون أشد حذراً، ليتفحّص كل فكرة ويتعرف إلى مَنشئها ومحتواها ومآلها قبل أن يتجرأ ويعتمدها ويزعم موافقتها للإسلام.
6- كلما تعلمتَ حكماً من أحكام الشرع، لا سيما إذا تعلمته مع دليله فقد ارتقيت درجة في مدارج أهل العلم: إخلاصاً لله، والتزاماً بأحكامه، وتخلّقاً بأخلاق سيد العلماء صلى الله عليه وسلم: تواضعاً وحلماً وصبراً وشجاعة وكرماً... وينبغي أن يكون ذلك حافزاً لك على الاستزادة من العلم: قراءةً وبحثاً، واستزادة في الخلق والتقوى. فراقب نفسك: هل ارتقيتَ هذه الدرجة؟!. وقد كان شيخنا عبد الفتاح أبو غدة، رحمه الله، يقول: تحصيل العلم يجب أن يترافق مع أخلاق العلماء.
7- وماذا عن أخذِ حكمِ مسألة من مذهب، وحكم مسألة من مذهب آخر، وهو ما يسمى بالتلفيق بين المذاهب؟! هنا نذكر بعض القواعد:
- العامي لا مذهب له، مذهبُه مذهبُ مفتيه. فإذا احتجتُ إلى حكم مسألة وسألتُ بعض أهل العلم فليس من واجبي أن أقول له: إن مذهبي كذا، وأريد أن تفتيني وفق هذا المذهب. بل يمكنني أن أكتفي بما يفتيني.
- إذا كنتُ مقلّداً لأي مذهب ثم ترجّح لديّ، بالقراءة والسؤال والبحث، أن دليل مذهب آخر هو الأقوى في مسألة ما، فلا حرج علي في الأخذ بالرأي الأقوى (من غير أن أنتقص من الرأي الآخر أو أشنّع عليه!).
- إذا أردتُ أن أخالف مذهبي في مسألةٍ لمجرد أن قول المذهب الآخر أيسرُ وأسهل، فإن كان ذلك لضرورة أو حاجة فلا بأس (كأن آخُذَ برأي الحنفية في أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء، وأنا شافعي، وذلك لدى الطواف بالكعبة حيث يصعب التحرز من هذا اللمس).
أما إن كان لمجرد تتبّع الرُّخَص، فآخذ من كل مذهب ما هو الأيسر، من غير الضرورة... فقد دخلت مرحلة التشهّي واتباع الهوى. بل الأصل في المسلم أن يأخذ بالأحوط من أقوال العلماء، ما لم يؤدِّ به ذلك إلى الحرج، ومن غير أن يلزم غيره بذلك.
هذا، والله أعلم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول