في أعقاب الهجرة

هذه خطبة جديدة قديمة ، فهي من ملفات الخطب القديمة التي كنت أقوم بجمعها وإعدادها وصياغتها وكتابتها ثم أرتجلها على منبر جامع السلام بحلب عندما كنت أخطب فيه قبل تشييده

وتاريخ هذه الخطبة في 12 محرم 1399

وقد قام أخي الحبيب طارق قباوة بإحيائها من جديد ، وتكرم بصفها بمهارة وسرعة ،و شجعني على النظر فيها وإعادة نشرها ، فأرجو أن تكون نافعة، وأسأل الله سبحانه أن يتقبل مني ويرزقني السداد والإخلاص ، وأن يردنا إلى بلادنا أعزة كراما ، نبلغ رسالة العلم ، وندعو إلى الله تعالى بحكمة وبصيرة .

صورة من مقدمه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة:

هل ترون بأساً في أن نرجع بالذكرى إلى ما قبل ألفٍ وثلاثمائة وتسعٍ وتسعين سنة وأن ننتقل بأرواحنا من هذا المكان إلى المدينة المنورة لنشهد دخول النبي صلى الله عليه وسلم ونرى كيف استقبله أصحابه الكرام رضي الله عنهم، ونكون في جملة أولئك المستقبلين ولو تخيلاً؟

هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم راكباً على ناقته القصواء وجهه الكريم يتهلل سروراً، وقد استنار وجهه حتى لكأنه فلقة قمر، والجلال والجمال تألف منهما تاج نوراني، ازدان بمفرق المصطفى صلى الله عليه وسلم وجبينه الوضاح الكريم الذي يشع النور والهدى.

البسمات تلو البسمات يفتر بها ثغره الشريف فيتلامع النور ويتلألأ، ونظرات العطف والحب يوزعها من عينيه الكريمتين على من حوله فيأخذ قلوبهم عشقاً وهياماً.

هلم بنا أيها الإخوة نجيل أبصارنا في سماء المدينة وأرضها وجدرانها وأسطحتها لنجتلي ذلك النور الذي جللها وكللها، بحلةٍ قشيبة براقة خلابة فرحاً بالقادم الكريم عليه الصلاة والسلام، واغتباطاً بأنها المقر الشريف، وفيها المهجع والمضجع، وحقَّ لطيبة أن تنتشي سروراً بما خصها الله تعالى به من جميل الصنع فهي الصدفة الشريفة لتلكم الدرة الكريمة اليتيمة التي ليس لها في العالمين نظير ولا شبيه.

كيف كانت الليلة الأولى من قدوم المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى المدينة؟ إنها ليلة فريدة عامرة لن يجود الزمان بمثلها، إن المدينة لتنطق تلك الليلة بألسنة جواريها الصغيرات حين كنَّ يقلن:

نحن بنات من بني النجار=يا حبذا محمدٌ من جار

فيسألهن الرسول صلى الله عليه وسلم بعطفه المعهود وحنانه المشهود :(أتحببنني)؟ فيجبنه: نعم، فيقول: الله يعلم إن قلبي يحبكن.

ونحن بدورنا أيها الإخوان، شهد الله تعالى وملائكته والناس أجمعين أننا نحبه سبحانه، ونحب رسوله صلى الله عليه وسلم ونحن من أحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، اللهم لا تحرمنا بركة هذا الحب واجعله خالصاً لوجهك الكريم، وأشهدنا آثاره في الدنيا ويوم الدين، إنك رحيم ودود جواد كريم.

بناء مسجد قباء:

ها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل من على ظهر ناقته، وقبل أن يستريح من رحلته الشاقة الطويلة... ها هو يضع اللبنة الأولى، ويرسي الحجر الأول في صرح الحضارة الجديدة التي سوف يقيمها باسم الله، ولإعلاء كلمته، إنه قباء المسجد الذي أسس على التقوى والذي ذكره سبحانه في قوله: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108].

إن مسجد قباء يقومُ رمزاً خالداً، وتجسيداً لأساس حضارة الإسلام، ولهذا كان أول ما يعنى به المسلمون إذا فتحوا بلداً أو استقروا موطن أن يؤسسوا فيه المسجد ليكون رمزاً لدينهم، وملتقى لجمعهم.

فتأسيس المسجد أحق بأن يبادروا فيه قبل إنشاء القلاع والحصون لأنهم مؤمنون بأن تقوية صفوفهم بعبادة ربهم هي القوة التي لا تغلب. إنها سنة سنَّها نبيهم صلى الله عليه وسلم وساروا عليها من بعده. وأصبح المسجد هو الطابع المميز لهذه الحضارة يعبر عن صلتها الوثيقة برب هذا الكون، ويؤذن بمهمتها التي عليها أن تقوم بها في هذا العالم.

بناء المسجد النبوي:

وبعد أن أقام النبي صلى الله عليه وسلم بقباء أربعة أيامٍ توجه هو وصاحبه الصديق إلى المدينة في يومٍ مشهود لم تر له الدنيا مثيلاً من قبل، ولن ترى له مثيلاً من بعد. فها هم أصحابه الكرام رضي الله عنهم جند الله الأشاوس يحفون به صلى الله عليه وسلم كما تحفُ الكواكبُ بالبدر المنير، وقد تقلدوا سيوفهم ببريقها الذي يكاد يخطف الأبصار، متحمسين لصاحب الدعوة الذي أخرجهم ربهم به من الظلمات إلى النور.

وها هم أولاءِ أصحابُ المنازل وقفوا يشهدون هذا الموكب الرباني النبوي بقلوب خافقة بالحب، فيَّاضة بالإيمان، وحين يصل إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذون بزمام الناقة قائلين: إلينا إلينا يا رسول الله، كل يتمنى أن يشرف منزلة بالرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول عليه الصلاة والسلام: دعوها فإنها مأمورة. وهكذا حتى تبرك أمام دارِ أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه. وما إن استراح قليلاً من سفر الهجرة الطويل وعنائها حتى بدأ النبي صلى الله عليه وسلم حياة الإسلام في المدينة بإقامة المسجد النبوي ،وكان في المبرك الذي بركت فيه ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مربداً لغلامين يتيمين من الأنصار.

فساومه رسول الله فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير وبهذا التصرف الحكيم ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً كريماً في رعاية حقوق اليتامى، وشرع المسلمون في إزالة الأشجار والمقابر، والأنقاض، وشرعوا في البناء، والنبي صلى الله عليه وسلم في مقدمتهم يحمل اللَّبِن، والحجارة وينقل التراب ويقول وهم يرددون وراءه:

اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة=فاغفر للأنصار والمهاجرة

وينشد بعضهم:

هذي الحمال لا حمال خيبر=هذي أبر ربنا وأطهر

وفي هذا الارتجاز تنشيط للنفوس وترويج للقلوب، فيسهل الشاق ،ويلين الصعب، و ارتجز علي بن أبي طالب رضي الله عنه يومئذ:

لا يستوي من يعمر المساجد=يدأب فيه قائماً وقاعداً

ومن يرى عن الغبار حائداً

فنحن نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يندب المسلمين إلى بناء المسجد فحسب، ثم ذهب يراقبهم في قصر منيف له مستريحاً هادىء البال، ولا أقبل إليهم في احتفال صاخب رنان ليمسك معول أحدهم بأطراف أصابعه فيضرب به ضربة واحدة في الأرض إيذاناً ببدء العمل وتخييلاً لهم أنه قد شاركهم في ذلك، ثم يلقي المعول ويدير إليهم ظهره، ينفض عن حلته ما قد علق بها من ذرات غبار.

ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاركهم في العمل كأي واحد من أصحابه، يرتجزون لينشط بعضهم بعضاً فيرتجز معهم، ويكون أكثرهم عملاً حتى قال بعضهم:

لئن قعدنا والنبي يعمل=ذاك إذا للعمل المضلل

وببناء النبي صلى الله عليه وسلم لمسجده الشريف وضعت أعظم اللبنات في بناء صرح حضارة الإسلام.

بناء المساجد في الأسفار والغزو:

كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على بناء المساجد في الأسفار الطويلة، وأثناء الغزو ولاسيما إذا طال الحصار، وفي حصار خيبر بنى مسجداً يصلون فيه أثناء الحصار، وقد عقد البخاري في صحيحه باباً فقال: باب المساجد على طريق المدينة والمواضع التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا كله يدل على منزلة المساجد في مجتمع الإسلام، فالمسجد هو المؤسسة الحضارية الأولى في مجتمع الإسلام وهو نقطة الانطلاق، ومركز الإشعاع الأولى في تكوين المجتمع المسلم.

لم يكن عبثاً أن يكون أول عمر كبير يقوم به رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة هو بناء المسجد، وإنما كان عملاً ذا دلالات عديدة متنوعة.

1 ـ إنه يعني التزام المسلمين بتوجيه حضارتهم كلياً وجزئياً ،غايات ووسائل لتكون في خدمة دينهم.

2 ـ ومن هذه الحقائق:أن المسجد ركيزة أساسية في المجتمع المسلم لا يتكامل بناء المجتمع إلا بها.

3 ـ ومن هذه الحقائق: أن المسجد ميدان التطبيق العملي لكل ما اعتنقه المسلم من عقيدة وعبادة ولكل ما تعلمه المسلم من أمور دينه ودنياه.

4 ـ ومن أبرز هذه الحقائق: أن إقامة المسجد خطوة أولى من بين الخطوات التي يتحتم على المسلمين أن يخطوها في سبيل الدعوة إلى الله ما داموا ماضين بدينهم يبلغونه الناس، ويجاهدون في سبيله لا يخافون في الله لومة لائم، وليس كالمسجد منطلق لكتائب الحق والإيمان ينظمون أنفسهم فيه، وينطلقون منه مبشرين بأكمل الأديان وخاتمها الدين الذي اختاره الله سبحانه للبشر كلها تتخذه شرعة ومنهاجاً وتعمل به وتدعو إليه حتى تكونَ كلمة الله هي العليا وحتى يكون الدين كله لله.

أول مسجد معادٍ في الإسلام (مسجد الضِّرار):

ليس غريباً ولا ينبغي أن يكون بعيداً عن التصور ونحن في مجال الحديث عن أول مسجد بني في الإسلام أن نتحدث عن أول مسجد معادٍ للإسلام، فإن خطورة المسجد قد عرفها أعداء الإسلام، وحاولوا أن يقاوموا أثر المسجد في النفوس، لذلك كان أعداء الدعوة الإسلامية يضعون في طريقها العقبات والعوائق ويحاربونها بما يتصورون أنه مثيل لأسلحتها، فمنذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله في مكة، ويتلو على الناس من آيات ربه، منذ ذلك الحين تصوَّر عدو الله النضر بن الحارث أن القضية قضية قصة تحكى وخبر يروى فشمَّر عن ساعده وهو القاص البارع الذي اجتمع إليه من قصص الفرس وغيرهم الشيء الكثير، فأخذ يحارب هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند ربه عزَّ وجل من قرآن وقصص للأنبياء والمرسلين يحاربه بما كان يعرف من حديث الفرس ويقول للناس: والله ما محمد بأحسن حديثاً مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبتها فأنزل الله تعالى فيه: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:6].

وكذلك كان الحال حين هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، شعر أعداء الدعوة الإسلامية أن أول عمل قام به الرسول صلى الله عليه وسلم هو بناء المسجد، ووجدوا ما تركه المسجد في نفوس المسلمين من أثر وما إن شعروا بذلك حتى ثارت ثائرتهم فحاولوا أن يحاربوا الإسلام بمسجد مماثل يتخذون منه منطلقاً للكيد للإسلام، فبنوا مسجد الضرار كفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله.

فماذا كان من قصة مسجد الضرار هذا؟ قال ابن كثير: (كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من الخزرج يقال له: أبو عامر الراهب، وكان قد تنصر في الجاهلية، وله شرف في الخزرج كبير ،فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة المنورة واجتمع المسلمون عليه، و صارت للإسلام كلمة عالية، وأظهرهم الله ،يومها شرق اللعين أبو عامر بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها، وخرج فاراً إلى كفار مكة يمالئهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ثم ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم فوعده ومنَّاه، و أقام عنده، وبعث إلى رجل من قومه من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنِّيهم أنه سيقدم عليهم بجيش يقاتل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وأمرهم أن يتخذوا له معقلاً يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده يكون له مرصداً إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وجاؤوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي بهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته، وذكروا أنهم بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية، فعصمه الله تعالى من الصلاة فيه فقال: (إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله ) فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة من تبوك، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم، نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة ).

حكى القرآن الكريم ذلك في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108].

فهذه قصة مسجد الضرار، وقصة بنائه من أعداء الإسلام وهو أول مسجد بني لحرب الإسلام والمسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن فكرة بنائه وإعداده من الأفكار الوافدة عن الروم وتدبيرهم وكيدهم للإسلام والمسلمين، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدم ويحرق بعد أن كشف الله سبحانه حقيقته لرسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان هذا هو ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسجد الضرار وهو مكان قد اختبأ وراء مظاهر الدين والخير والبر، فما بالكم بأماكن المعاصي والفواحش التي يعصى الله فيها جهاراً نهاراً وعلناً... وقد أحرق عمر رضي الله عنه قرية بكاملها يباع فيها الخمر، وأحرق حانوت رويشد الثقفي وسماه فويسقاً.

ومما ينبغي أن يكون واضحاً لدينا نحن المسلمين أن مسجد الضرار عمل مستمر في كل عصر، وهو في عصرنا هذا الذي نعيشه عملية قائمة بصور شتى، ولن أذهب بعيداً عما نحن فيه الآن وإنما أتحدث عن واقع نحسه ونعيش أبعاده كلها فأقول:

أليست كتابات أعداء الإسلام عن الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم أليست هذه الكتابات الخبيثة تفعل بالمسلمين ما كان يطمع فيه بناة مسجد الضرار أن يفعلوه بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟

أليست محاولة إلغاء المدارس الشرعية و تغيير المناهج الإسلامية تستهدف في المسلمين اليوم ما كان يستهدفه بناة مسجد الضرار بالأمس؟ والذين يقومون بهذا الأمر يحملون بين حناياهم روح مسجد الضرار.

أليست المذاهب الخبيثة والهدامة التي تملأ على المسلمين أرضهم وديارهم، أليس ذلك هو ما كان يرجوه بناة مسجد الضرار.

أليس الأخذ من قوانين الناس وترك كتاب الله سبحانه ذلك الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أليس ذلك تفريقاً لكلمة المسلمين وتمزيقاً لوحدتهم وإذهاباً لريحهم، أليس كل ذلك هو ما كان يطمع فيه بناة مسجد الضرار.

مكانة المسجد في المجتمع الإسلامي:

لقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم المجتمع المسلم على ركائز عديدة من أبرزها:

بناء الشخصية المسلمة، وبناء البيت المسلم، و بناء المسجد، وبناء المجتمع المسلم كله من تلك العناصر ،فإذا صلح الفرد، وصلح البيت، وأدى المسجد وظيفته كان المجتمع المسلم المتكامل، المجتمع الذي يستطيع أن يحمل أمانة الدعوة الإسلامية وإبلاغها إلى الناس كافة.

المجتمع الذي يستطيع أن يدفع الحياة في اتجاهها الصحيح مجتمع الحركة البناءة الدائبة، المصرة على أن تصل بالإنسانية إلى دين الحق وإلى صراط الله المستقيم.

بين المسجد والبيت:

إن المسجد يتعاون مع الأسرة في بناء المجتمع الراشد، فالبيت المسلم ينجب الأبناء ويرعى طفولتهم ونشأتهم الأولى، والمسجد يرعى هذا الغرس وينميه بالإيمان و اليقين والهدوء والنظام والخشوع، البيت يعلم الأبناء والمسجد يعلم الآباء والأبناء، فالمسجد هو مدرسة المسلمين كافة.

ففي المسجد تتعلم الأجيال الصاعدة كيف تهدأ وتسكن وترعى حرمة المسجد، فلا صياح ولا صخب ولا بيع ولا شراء ولا نشدان ضالة أو نحو ذلك ؟

 وفي المسجد تتعلم الأجيال النظام والدقة، وفي المسجد يتعلم الناس العلم ويتفقهون في أمور دينهم، وفي المسجد يتعلم الناشئ كيف يتفقد أخاه المسلم إذا غاب عن المسجد فيعوده إذا كان مريضاً ويعينه إن وجده محتاجاً ، وهذا تدريب عملي على واجبات الأخوة الإسلامية.

وفي المسجد يتحقق التعارف بين المسلمين وينمو التآلف، وفي المسجد تصقل شخصية المسلم ويزول عنها ما يحتمل أن يكون قد علق بها من عيوب كالانعزالية والأنانية، ولهذا كان ضرورياً أن تكون الرابطة بين البيت والمسجد رابطة وثيقة يسعى فيها البيت إلى المسجد خمس مرات في اليوم والليلة، ويذهب فيها المسجد إلى البيت بما أعطى لهؤلاء الرواد من الزاد.

وإذا كانت الحياة خارج المسجد تشد الناس إليها بحبال قوية من حاجاتهم المدنية الملحة فإن ذلك ربما ينسيهم ولو إلى حين حاجاتهم العلوية الملحة أيضاً ومن هنا تبدو أهمية المسجد لنا:

فكلما انهكتنا الحياة ونالت من مقاومتنا لشرورها ومغرياتها دخلنا المسجد لنخرج منه ونحن أقوى عزماً على مواجهة تحديات الحياة، وأمضى إرادة على منازلة قوى الشر، فالعلاقة بين المسجد وحياة المسلمين علاقة أخذٍ وعطاء وتجدد مستمر.

والمسجد في المجتمع الإسلامي مكونٌ من مكوِّنات الشخصية المسلمة لا يتكامل إيمانها إلا بالذهاب إلى المسجد والمواظبة على حضور الجماعات، لأن اعتياد المسجد سمة من سمات الإيمان كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فأشهدوا له بالإيمان).

والمسجد يعلم المسلم النظافة والطهارة، ويحمله على أخذ زينته وهو ذاهب إليه، قال الله تعالى:{يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأعراف:31].

ومن شأن التجمل في المظهر والنظافة في الملبس أن يكون عوناً على تحقيق التعارف والتآلف ، وكلما كان الجمع في المسجد أكثر احتشاداً كانت الدعوة الإلهية إلى التجمل والنظافة أكثر وأدق، ولذا يجمع الفقهاء على استحباب الغسل لصلاة الجمعة، ولبس أفضل الثياب لها، والتطيب من أجلها بأفضل الطيب.

ومن أجل المكانة العظيم للمسجد، ومن أجل الرسالة المهمة له أمر الله تعالى بتشييد المساجد فإن عمارتها من أهم الأعمال التي ترضي الله سبحانه، التي تشهد لصاحبها بالإيمان الصادق والعقيدة الصحيحة.

 قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ} [التوبة:18]. ففي هذه الآية وصف بناةٌ المسجد بأوصاف خمسة تؤكد عميق صلتهم بالله تعالى:

أولها: إيمانهم بالله أرسخ الإيمان وأقواه.

وثانيها: إيمانهم باليوم الآخر فهم: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37].

وثالثها: إقامتهم للصلاة فهم:{عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:34].

ورابعها: إيتاؤهم للزكاة فهم:{لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون:4].

وخامسها: تقوى الله فهم لا يخشون إلا الله ، {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28]. فلا عجب وقد آثروا بعمارة المساجد أشواق الروح على كل مغريات الحياة: {أَنْ يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ} [التوبة:18].

 ومن أجل ذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد وأخبرنا بالثواب العظيم. روى البخاري ومسلم عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من بنى لله مسجداً يبتغي فيه وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة).

والمساجد هي البيوت التي خصها الله بإعلان الأذان برفعها رفعاً مادياً بالبناء والتشييد ،ورفعاً معنوياً بالتطهير والتحميد.

 قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآَصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:38].

والمساجد هي أحب الأماكن إلى الله وأفضلها وأطيبها .

روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها).

ومع أن الأرض كلها لله فقد خصَّ الله المساجد منها بنسبتها إليه لتكون أماكن عبادة لله وحده، والدعاء لله وحده.

 قال تعالى:{وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا} [الجنّ:18].

ولما كانت المساجد لله وحده، والأعمال التي تقام فيها لله وحده، فليس لغير المؤمنين أن يعمروا المساجد لأنهم شاهدون على أنفسهم بالكفر.

 قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة:17].

ولما كانت المساجد بيوت الله في أرضه ترفع لذكره وعبادته كان الصد عنها والسعي في خرابها مادياً أو معنوياً من أعظم الذنب وأكبر الجرم فقد شدد الله النكير على هؤلاء وأوعدهم ووصفهم بأنهم ظالمون وتكفل بأن يخزيهم في الدنيا والآخرة قال تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:114].

فتلك الآيات القرآنية التي تلوتها على مسامعكم - أيها العمَّار لبيوت الله - تدلكم على مكانة المسجد في الإسلام، وتعلمكم أن أفضل أعمالكم هي عمارة المسجد وإحياءُ معانيها في نفوسكم، و تؤكد أن أكبر الإثم أن يعمل أحد على تعطيل المسجد أو تخريبه.

والمسجد بؤرة التوحيد، ومركز الإشعاع الروحي، ومنطلق التوجيه الديني، وهو المجتمع لأداء فريضة الإسلام الكبرى وشعيرته الأولى، وهو المدرسة التي تتلقى فيها التعليم المحمدية، وهو المصنع الذي تصاغ فيه الأمثلة التطبيقية النموذجية للإسلام، وهو المصفاة التي تجلو صدأ القلوب، تنفي عنها أدران الدنيا، ثم هو بعد ذلك المعراج لمن يشاء الصلة بعلام الغيوب، ارتبط به المسلمون دهراً طويلاً، فكانوا خير أمة أخرجت للناس، ثم طال عليهم الأمد فتعلقوا بغيره، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير فبعدوا عن السيادة والقيادة وعن الهدى والرشاد.

وهكذا فإن المسجد في الإسلام دعامة قوية من أهم الدعائم التي قام عليها المجتمع المسلم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يزال، وسيظل ركناً أساسياً في بناء المجتمع الإسلامي في حاضر المسلمين وفي مستقبلهم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المراجع : ردود على أباطيل ، للشيخ محمد الحامد

رسالة المسجد في الإسلام ، للشيخ الشهيد محمد خير زيتوني

نشرت 2011 وأعيد تنسيقها ونشرها 26/8/2020

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين