فيل من طين

عبد العظيم عرنوس

ساهمت الابتكارات المتميزة على مر التاريخ البشري في أوقات الأزمات والشدائد والأخطار المحدقة في إضعاف جبهات الأعداء ، وأدت هذه الابتكارات في كثير من الأحايين إلى تحويل مجرى التاريخ لصالح الشعوب المستضعفة الثائرة .
ففي غزوة الأحزاب أقبل المشركون في جمع حاشد لا طاقة للمسلمين بمواجهته .. قريش ومن تبعهم من كنانة وتهامة وغطفان في عشرة آلاف مقاتل ، وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم ببصيرته النافذة أن الالتحام المباشر مع هذا الجيش العرمرم المتفوق عليهم تفوقا ساحقا ليس هو طريق النصر ، فما عساه يفعل إذن .. لقد استشار أصحابه فكان من بركة من الاستشارة ابتكار سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر خندق في المنطقة المكشوفة من المناطق المحيطة بالمدينة المنورة ، وكان لهذا الابتكار السلماني أكبر الأثر في إحداث صدمة هائلة لجموع الأحزاب .. الأمر الذي انتهى بهزيمتهم في نهاية المطاف .. ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون .
ابتكار القعقاع :
لقي المسلمون في يوم أرماث من فيلة الفرس عنتا شديدا ، وحملت الفيلة عليهم ففرقت بين الكتائب ونفرت الخيل ،
وكانت الفرس قد قصدت بجيلة بسبعة عشر فيلا ، فنفرت خيل بجيلة ، وكادت بجيلة تهلك لنفار خيلها عنها وعمن معها ، فتفتق ذهن القعقاع عن هذا الابتكار الرائع ؛ كما ذكر ابن الأثير في التاريخ : وحمل بنو عم للقعقاع عشرة عشرة على إبل قد ألبسوها وهي مجللة مبرقعة ، وأطاف بهم خيولهم تحميهم، وأمرهم القعقاع أن يحملوها على خيل الفرس يتشبهون بالفيلة ، ففعلوا بهم هذا اليوم، وهو يوم أغواث ، كما فعلت فارس يوم أرماث ، فجعلت خيل الفرس تفر منها وركبتها خيول المسلمين فلما رأى الناس ذلك استنوا بهم، فلقي الفرس من الإبل يوم أغواث أعظم مما لقي المسلمون من الفيلة يوم أرماث .
فيل من طين :
وذكر القرطبي في تفسيره : وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من الفيلة ، فعمد رجل منهم فصنع فيلا من طين ، وأنَّسَ به فرسه حتى ألفه ، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل ، فحمل على الفيل الذي كان يقدمها فقيل له : إنه قاتلك فقال : لا ضير أن أقتل ويفتح للمسلمين !!.
ولكسب القلوب ابتكار :
التأليف بين قلوب المؤمنين من أوجب الواجبات ، ولقد امتن الله على نبيه بتأليف قلوب أصحابه ، بعد أن كانوا في جاهليتهم أعداء متنافرين متنابذين .. هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ
وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {الأنفال:62-63} .. وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً .. {آل عمران: 103}
وأدرك النابهون أهمية تمازج القلوب وتقاربها فكان إبداع الشيخ محمد سعيد العرفي عالم دير الزور حيث ابتكر طريقة لكسب القلوب فقال للإمام البنا : يا أخي سم ، قال له : وما أسمي يا سيد محمد ؟ فقال : سم إخوانك وأصحابك ومنشآتك ، قل لهذا : إنك تشبه أبا بكر ، ولهذا : إنك تشبه عمر ، فإن هذا يبعث فيه الحمية ، ويدفعهم إلى القدوة الحسنة ، والأسوة الصالحة .
والانتصار الحقيقي على مسارب النفوس ، ومشارب القلوب ، هو الأكبر والأعظم في ميزان الله ، ولا جدوى من نصر يعقبه صراع في الصف ، واختلاف في القلوب .
ابتكارات الثورة السورية :
تتميز الثورة السورية عن غيرها من ثورات الربيع العربي بابتكاراتها البديعة ، التي جعلت من رموز النظام وشبيحته مادة للسخرية صبت في مشروع الثورة على طريق النصر المرتقب بعون الله ، ولعل من أكبر عوامل النصر بعد الإيمان ابتكارات الثوار للأهازيج الشعبية والأناشيد الثورية ، التي تثير الحمية والحماسة في نفوس المتظاهرين ، وتبث
الرعب في قلوب أعدائهم ، وكأنها شواظ من نار تُرسَل عليهم فلا ينتصرون ، أو كأنها سهام نافذة تصيبهم في مقتل .. روى أحمد في مسنده عن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل قد أنزل في الشعر ما أنزل فقال ان المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكان ما ترمونهم به نضح النبل . والحديث قال عنه الأرنؤوط : صحيح على شرط الشيخين ، وقال ابن مفلح والألباني : صحيح .
ولحمص ابن الوليد تميز في ابتكاراتها :
لقد برز دور الفكاهة السورية جليا في يوميات الثورة ، وشارك أبناء كل صقع من الوطن في الابتكارات بطريقتهم الخاصة يرسمون الصورة التافهة للنظام وأزلامه وشبيحته حتى جعلوهم مادة دسمة للسخرية تتناقلها الألسن ، وتفعل فعلها المهول في إضعاف نفوسهم وكسر إرادتهم .
واشتهرت مدينة حمص بخفة دم أبنائها وملاحتهم وعذوبة نكاتهم ، وإتقانهم فن الدعابة ن ولقد ساهمت ابتكاراتهم الفكاهية في تعبئة الشعب ، ودفع حركة الثورة دفعات قوية حتى أضحت من أهم الأسلحة والأدوات في إرباك قطعان النظام ، حقا لقد أبدع أحفاد ابن الوليد في هذا المجال أيما إبداع ، فكانوا فرسان الميدان الفكاهة بلا منازع ؛ رغم المحنة والألم والظروف الحالكة ، وضخوا في روح الثوار دماء جديدة تسري في شرايينهم .
وهكذا نرى أن الثورة السورية هي الأغنى ابتكارا ، والأكثر إثراء في ميادين مجابهة الأنظمة الباغية الطاغية وتحديها لنزع الملك منها ، سواء في مجال الفكاهة ، أو الأناشيد الثورية ، أو الأغاني الحماسية ، أو غير ذلك من الابتكارات الكثيرة المتنوعة ، مما يدل على عظمة هذا الشعب الذي أثرى الثورة بهذا الكم الهائل من الإبداعات في وقت قصير ، وستتخلق ابتكارات كثيرة على طريق النصر بعون الله .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين