فيتامين

يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله متعجبًا: (كيف يكون داعية من ليس كاتبًا ولا خطيبًا!). هو يقصد تلك الطائفة المتخصصة التي عليها أن تنفر من كل فرقةٍ تحمل لواء الدعوة: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومُهم إذا رجَعوا إليهم لعلهم يحذرون)..

لكننا في فيتامين "دعوة" نتوجه إلى كل مسلم ومسلمة، امتنّ الله عليهم بهذا المقويّ الحيوي، فصحّت عقائدهم، واستقامت أخلاقهم، وصَلُحت أحوالهم. أولئك هم المعنيون ببذل هذا المَصْل المبارك، لتعمّ الراحة أرجاء المعمورة.

ولأن الوقوف على المنابر وحده لا يتكفّل بوصول روح فيتامين" دعوة" إلى كل الناس، ولأنّ كل فرد منا ليس مطالبًا بإعداد الخطب المنمّقة، والمحاضرات المزوّقة؛ فعلينا جميعًا أن نفهم ما المقصود بهذا الفيتامين، حتى نقوم بمهمتنا في الشهادةِ على الناس بالحقّ والعدل، والسلام والأمان ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا...(143)﴾ [البقرة].

شهادةً نتبرأ بها ممّن ظنّوا أنفسهم يدعون إلى الله بقطع الرؤوس، وسلخ الجلود، وضرب الظهور، وبتر الأيادي. إنها في الحقيقةِ دعوةٌ تقطع الطريق بين الناس وبين دينِ الله الأصيل، وتسلخ الجماهير من إسلامها، وتضرب بأساليب الدعوة وتدرّجها عرض الحائط، وتبتر كلّ وسيلة تصل بين منهج السماء بأهلِ الآرض..

وشهادة نغسل بها ذمتنا من الذين يعتقدون أن الصوت المزلزل، واللغة التهديدية، والأسلوب القاسي، والنبرة العنيفة، واللهجة التشاؤمية، هي التي تدخل الجماهير في دين الله أفواجاً!

فالدعوة هي إخراج الناس من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمُة الكفرِ، إلى نور الإيمان، ومن ضنك المعصية إلى سرور الطاعة. إنها إنقاذ الناس من غضب الله، وسوقهم زمرًا إلى رضوان الله.

بعد 23 سنة، اجتمعت صديقاتُ المدرسة على مجموعة واتساب، وعظمت سعادتهن بانضمام معظم رفيقات الصّف، فقررن أن يلتقين. حدّدن المكان والوقت، استدركت إحداهن: أخّرن الموعد قليلًا، حتى نصلي العصر قبل أن نخرج، تقول أخرى: (لما قرأت هذه العبارة (نصلي العصر) قلت في نفسي: في أي كوكبٍ أعيش أنا؟ لماذا ابتعدت عن ربي؟ ألهذا أشعر بالاكتئاب والضيق منذ فترةٍ طويلة؟)، وتضيف: (بهذه الكلمة استيقظت مشاعري، وانتبهت إلى تقصيري، وقبل أن يحين موعد لقائنا، كنت قد التزمت بالصلاة، وبدأ الهمّ يزول عني).

الدعوة بالكلمات والمواقف، هي في ديننا أساس من أسس انتشاره، وركن من أركان قيامه.

فبها تهتدي النفوس، وتقرّ الأرواح، ويتعلم الناس أمورَ دينهم، ويصلحون علاقتهم بربهم.

بالدعوةِ تستقيمُ معاملات الناس، وتصلح أحوالهم الاجتماعية والأسرية. بها تتحسن الأخلاق، وتقلّ الخلافات، وتزول الأحقاد، ويقلّ الأذى.

بالدعوةِ تعمّ الرحمة، وينتشر الأمن، ويسود السلام، ويتحقق العدل بين الناس.

بالدعوةِ تُحفظ الأموال، وتعصم الدماء، وتصان الأعراض.

نعم.. هذا قدرُ الدعوةِ، هذه مقاصدها، وهذه غاياتها. ومن شذّ شذّ في النار.. هكذا وردنا عن نبيّنا المختار صلى الله عليه وسلم.. والشذوذ هنا هو الخروج عن منهج الإسلام، وأهله الأبرار..

عندما يتغلغل فيتامين "دعوة" في عظمنا ولحمنا وعصبنا، نحيا بها، ونعيش في رحابها، ونتمتع بآثارها وثمراتها، ونسعد بكل نَفْس رجعت إلى الحق، وعملت به، ونفرح لكل خير أصاب روحًا فزكاها، ونُسَرّ لاندحارِ الشرّ، وخذلان أهله.

يقول الإمام مالك رحمه الله: (لن يُصلح آخر هذه الأمةُ إلا ما أصلحَ أولها)..

وهل أصلح أولها إلا الدعوة إلى الله تعالى؟! وهل من زمنٍ نحتاج فيه إلى الإصلاح مثل زماننا هذا؟!..

وهنا إشارة مهمة تؤكد على ضروة اتباع نظام مركّز من فيتامين "دعوة"، فالإصلاح بالدعوة هو حبل النجاة مما نحن فيه، لا الصلاح الفردي المقتصر على التدين الشخصي، لقول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)﴾ [هود]. ركّزوا على قوله عزّ من قائل: ﴿وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾، لم يقل ربنا: ﴿وأهلها صالحون﴾ بل ﴿مُصْلِحُونَ﴾!

إننا نريد من الدعوة أن يكون لها من التربية والتعليم أثر، وفي الاقتصاد يد، وفي السياسية رأي، وفي الإرشاد والإصلاح لسان، وفي الاتحاد جهد، وفي جهاد العدو سلاح. أن تكون الدعوة قبل القتل، لعصم دماء الأبرياء، وقبل القتال، لتمييز الصفوف والرايات.

الدعوة هي أن تقرّب البعيد، وتزكيّ القريب، أن تهدي الضال، وتثبت المهتدي.

الدعوة في قصة شاب حكاها شيخه.. لم يكن داعيةً متخصصًا، لكنه كان محبًا للخير، متلزمًا، ساعياً إلى نشره.

جلس هذا الشيخ بين تلاميذه في زيارة لإحدى الدول الأجنبية، فاستفقد أحدهم وسأل عنه، فقالوا له: تزوج، وقد فتح الله عليه، وأصبح من أرباب الملايين. قال الشيخ: ما شاء الله، بهذه السرعة! ماذا حصل معه؟

قام أحد التلاميذ ليروي للشيخ قصة زميله العجيبة.. قال: في يوم دُعي فلان إلى اجتماع عمل في مبنى ضخم، توجّه نحو المصعد الذي غصّ بالناس، ثم بعد عدة طوابق خلا المصعد إلا منه ومن صبيّة أجنبية، خافت هذه الفتاة إذ لا زال أمامهما وقتًا ليصلا إلى الطابق في هذا المبنى الشاهق، مما قد يسمح لهذا الشاب أن يؤذيها (لكثرة ما تسمع من أمثال تلك الحوادث)، ظلّت تراقبه بحذر، لكنه لم ينظر إليها، ولم يلتفت نحوها، وعندما وصلا، همّ بالخروج مطرقًا رأسه، فاستمهلته، لتسأله: لماذا لم تنظر إليّ؟ ألم تفكر في أن تقترب مني، أو تهاجمني؟! قال في سكون: إنّ ديني يحرّم عليي النظر إلى النساء، ويأمرني أن أحافظ على عفتي، ثم شرح لها بعض أخلاق دينه فيما يتعلق بالمرأة.. فقالت له: أتتزوجني؟، أجابها: إذا أسلمتِ..

طالبته بأن يعرفها على الإسلام، فأسلمت، وتزوجها، وكانت صاحبة شركة ضخمة مقرّها ذلك المبنى الشاهق، وتملك رصيدًا كبيرًا من الأموال، وضعتها بين يديه ثقةً به وبدينه.

(ملاحظة: قد تتبعت هذه القصة، وسمعتها من مصدرها الأول، وأعجب لمن يشكك في مثل هذه القصص، بينما يصدق "روائع" الأفلام والروايات والخرافات، ويسلم عقله لأبطالها المختلقين!)

هكذا هي الدعوة إلى الله.. وأسلوبها ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ (125)﴾ [الحجر]. باللين والرحمة، بالموعظة والحكمة، تتشرّب النفوس هذا الفيتامين:فيتامين "دعوة"..

قد عرفنا أهميته في حياتنا، وتأثيره علينا بعد مماتنا، ولكن ماذا عن أولئك المسؤولين عن ضخّه في عروقنا؟ ماذا عن الموكلين بإمدادنا به؟! ماذا عن "الدعاة"؟!..

هذا ما سنناقشه في المقالة القادمة بإذن الله..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين