فيتامين

كُنّا قد وقفنا عند أهمية فيتامين "دين" للإنسان، وأنه الاستجابة الطبيعية لصوت الفطرة الندية، وثمرة انسجام جسمٍ أرضي مع روح علوية سماوية.

وبعد أن أشرقت الأرضُ بالهداية والإيمان، واطمأنت لها روح الإنسان، كان لا بُدَّ من عنايةٍ لتلك النعمة، ورعايةٍ لتلك الأمانة، وقد جعل الله الأمةَ مسؤولةً عن تبليغ الدين الذي ارتضاه لعباده.

إنها مهمة الرُسُل، ووظيفة الأنبياء، ورسالة الحكماء، فلولاها لما كنا اليوم نرفل في أثواب الإيمان والاطمئنان، ولولاها لنزفت أرواحنا، وتدحرجت من عليائها إلى أودية الجهل والضلال والانحراف، ولولاها لما عبدَ الله عابد، ولا بُنيت المساجد.

وإذا كان الذكي منا يحبُّ أن يشتغل بما يحتاج أقلّ وقتًا وجهدًا، ويكون أكثر أجرًا ونفعاً، فسيجد جوهر هذه المعادلة القيمة في الدعوة إلى الله تعالى..

فيتامين "دعوة"، لا يتقن تركيبته إلا صادقُ النية، مخلص الطويّة، ولولا جهل الأكثرين بحلاوة طعمه وعظيم أجره، لتزاحموا عليه! لكنّه فيتامين صُنِع في مختبرٍ تحفُّه المكاره، وتصعبه الاستقامة، ومحجوبٌ عن كثيرين خلف أسوار الجهل، ليختصَّ الله به من يشاء من عباده.

وفي مختبر تصنيع فيتامين "دعوة"، انهمك المُصْلحون العارفون، واشتغلوا بتأليف الرجال والنساء الذين سيقومون بهذه المهمة العظيمة.

فذاك داعيةٌ وهو في ساحات الدعوة، يخاطبه والدُهُ ناصحًا: يا بنيَّ، لو سلكتَ مسلك تأليف الكتب، لنَفع الله بك أكثر، وابتعدتَ عن طريقِ الأشواك، وعشت مستريحًا معافىً. فأجابه: يا أبتِ، مكتباتنا عامرة بالكتب والمؤلفات، ومتعطشة لمن يقرؤها، أمّا أنا، فإني أؤلف الرجال، فألقي بهم في طريق الميّت، فيحيونه بإذن الله..

كثيرون يعتقدون أنّ هذا الفيتامين سيقوي جسد الأمة، إذا تهافتوا على بناء المساجد فحسب، وينسون دعم مسيرةِ الدعوة، بتبني من يحمل رسالة المسجد. غفلة منهم أو تقصيراً، يتفاخرون ببناء الحجر، ويرون له أعظم الأثر، فيما يزهدون ببناء أربابِ الدعوةِ البشر..

إننا لا نتحدث عن خطبةٍ على منبر، ولا عن محاضرةٍ في قاعة، ولا عن ورقةِ عمل في مؤتمر.

إننا نتحدث عن همّ ينبض في عروقنا بالشفقةِ والرحمة، عن شريان يتدفق محبةً لخير الناس، عن كلمة طيبة، عن حجةٍ دامغة، عن خلقٍ نبيل، عن مساعدةِ محتاج، عن صدقِ معاملة، عن أمانةٍ ووفاء.

إننا نتحدث عن دعوةٍ تجري في دمنا كلنا، ففي ديننا لا يوجد رجال دين، لأننا كلنا، رجالًا ونساءً، دعاة لهذا الدين، كُلنا مأمورون بالتبليغ، على حسب قدرة أحدنا ووسعه: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾، فمن كان من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فليدع إلى الله على بصيرة- وهذا لا يتعارض مع استنفار فئةٍ تدعو الناس دعوةً متخصصة.

فهل نعجز يا أتباع محمد عن تبليغ آية؟ وقد جاءنا الأمر منه عليه الصلاة والسلام: "بلغوا عني ولو آية"، أومِنّا من يستكثر ذلك؟! أين نحن من بشارة نبيّنا: "والله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ من الدنيا وما فيها"؟ أيليق أن نستقل الأجر على هذا العمل؟!

إننا نتحدث عن شابٍ مسلم يعيشُ في بلد أجنبي، لا يمتلك مهارةَ مناقشةِ كافرٍ أو ملحد، لكن دمه يغلي بفيتامين "دعوة"، ويعرفُ مركزًا إسلاميًا فيه متخصصون في أساليب الدعوةِ إلى الله، فقرَّرَ أن يكون سفيرَهم ودليلَ الناس إليهم، وصمَّمَ قميصًا كتب على ظهره باللغة الإنكليزية: "إذا أردتَ أن تتعرف على الإسلام، فاتبعني". فكان الناس يتبعونه بالعشرات، فيسير بهم إلى المركز الإسلامي، ويسلّمهم إلى الدّعاة أصحاب الحجة، فيعرضوا عليهم الإسلام. وقد أسلم على يديه بهذه الطريقة الآلاف، ممن أكرمهم الله بالهداية.

إننا نتحدث عن رجل روماني ذهب مع زوجته إلى تركيا سائحًا، فخرج من الفندق في الصباح، لكنه عند العودة مساءً أضاع طريقه، فصار يمشي ليسأل عن مكان الفندق. صادف رجلًا، فأوقفه، وأعطاه بروشور الفندق ليدلّه عليه، استغرب الرجل قائلًا: ليس من هذه القرية مثل هذا المكان، لكن اسمح لي أن تكون ضيفي هذه الليلة. ومشى بهما، إلى أن وصلوا إلى بيتٍ في وسط حقل، وكان الظلامُ دامسًا، حتى أن السائح وزوجته لم يريا إلا بوابة البيت. فدخلا ليجدا امرأتين كبيريتين في السن وخمسة أطفال، دعوهما إلى عشاء بسيط، فاطمئن السائح لإقامته عندهم، إذ لا شيء يثير الخوف أو القلق. وبعد العشاء، قال صاحب البيت: ستنام أنت وزوجتك في هذه الغرفة، وأشار إلى مكان آخر، حيث سينام فيه أفراد العائلة. استيقظ السائح صباحًا، وفتح باب الغرفة، يريد أن يشكر الرجل على استضافته، ويكمل طريقه، فتفاجأ أن الغرفة التي نام فيها مع زوجته هي كل البيت، ولا يوجد غرفة ثانية تنام فيها العائلة. نظر خارج الغرفة، فوجد أفراد الأسرة جميعًا ينامون تحت شجرةٍ كبيرةٍ، وسط البستان في طقس شديد البرودة. صرخَ السائح في وجه الرجل قائلًا: هل أنت مجنون؟ كيف تفعلُ ذلك؟ أجاب الرجل: كلا، لستُ مجنونًا، لكنكما غريبان وضائعان، فرغبتُ أن أعينكما واستضيفكما (فأنا مسلم). يقول السائح، عندما قال الرجل (أنا مسلم) كان وجهُه منورٌ كالشمس، وبدأت زوجتي تبكي متأثرة. فسأله السائح: أخبرني عن الإسلام؟ أريد أن أعرف هذا الدين. فقال الرجل: لا أعرف كثيرًا مما تريد أن تستفسر عنه، لكنك تستطيع أن تقرأ القرآن والسنة النبوية لتعرف أكثر. ذهب السائح مباشرةً إلى المكتبة، واشترى قرآنًا، وكتب حديث، ومكث على القراءة شهرين متتابعين. وبعد أن انشرح صدره للإسلام، شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.

لم تنته قصة ذلك الرجل البسيط مع السائح المهتدي. فمنذ بداية إسلامه بدأ بالدعوة إلى الله، وزار 112 دولة يحمل فيها شعار الإسلام، وأسلم على يديه ألف شخص، وقرّر أن ينشئ مركزًا إسلاميًا في رومانيا.

هذا الداعية الذي يمتلئ قلبه بفيتامين "دعوة" يقول عن نفسه: حلمي –أيها المسلمون- أن أجعل هذه الدعوة منتشرة في أنحاء العالم، وهدفي هداية الناس، للتعرف على النعمةِ العظيمة التي أهدانا الله تعالى إياها.

إذا كان ديننا لحمنا ودمنا، فإن دعوتنا هي قلبنا ورئتنا.. وللقلب والرئة مقويات ومحفزّات.. تؤخذ على جرعات، من فيتامين "دعوة".. وله روح تسري، إن فُقدت صارت الدعوة مجرد شكليات وفعاليات "غير فعالة"..

وهذا ما سنبحثه في المقالة القادمة بإذن الله..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين