فوائد من مجالس السماع والرواية (4)

السمة التي تميّز مجالس السماع والرواية وجود السند المتصل فالشيخ الذي تُقرَأ عليه الكتب والمصنفات له سند متصل ، والكتاب المقروء على الشيخ لمؤلّفه سند متصل ، والتلاميذ ينالون بركة الاتصال بالسند المتصل ، وهذه نعمة عظيمة ، ومنحة كريمة ، ومن خصائص الأمة المرحومة ، قال مُحَمَّد بن حاتم بن المظفر : (( إنّ الله أَكْرَمَ هَذِهِ الأمة وشرّفها وفضّلها بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها، قديمهم وحديثهم إسنادٌ، وإنما هِيَ صحف في أيديهم وَقَدْ خلطوا بكتبهم أخبارهم، وليس عندهم تمييز بَيْنَ ما نزل من التوراة والإنجيل مِمَّا جاءهم بِهِ أنبياؤهم، وتمييز بَيْنَ ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار الَّتِيْ أخذوا عن غَيْر الثقات. وهذه الأمة إنما تنُصّ الْحَدِيْث من الثقة المعروف في زمانه المشهور بالصدق والأمانة عن مثله حَتَّى تتناهى أخبارهم، ثُمَّ يبحثون أشد البحث حَتَّى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ، والأضبط فالأضبط والأطول مجالسةً لِمَنْ فوقه ممن كَانَ أقل مجالسةً. ثُمَّ يكتبون الْحَدِيْث من عشرين وجهاً وأكثر حَتَّى يهذبوه من الغلط والزلل ويضبطوا حروفه ويعدوه عداً.فهذا من أعظم نعم الله تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الأمة )) 

ولا تخلو مجالس السماع والرواية من الفوائد والفرائد .

الخاطرة الثانية عشرة : خاطرة بين يَدَي كتاب (( النّور في فضــائل الأيــام والشّهــور )) لابــن الجــوزي البغــدادي (ت٥٩٧هـ ) 

عقد شيخنا الدكتور عبد الحكيم محمد الأنيس -حفظه الله- مجــلساً في كــتاب (( النــور في فضــائل الأيــام والشهــور )) لابن الجوزي البغدادي (ت٥٩٧هـ ) عصر يوم الجُمعة 2/ محرم/1442هـ الموافق 12/8/2020 م 

وقد خطر لي : أنّ الوعظَ من منهج الأنبياء والمرسلين ، وورثتهم من العلماء العاملين ، والدّعاة والمُصلحين في تذكير العالَمين بيوم الدّين ، ودعوةِ الخلق الى تَصحيح الأقوال والأفعال والأحوال ، قال تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } 

وقد كان النبيّ ﷺ حريصاً على وعظ النّاس وتوجيههم ، وأكثر منه في المناسبات العامة والخاصة ، يقول الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ (( وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمًا بَعْدَ صَلاَةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ رَجُلٌ إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ ...)) 

واقتفى أصحابُه آثارَه من بعده في ذلك ، فعَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ : كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ .

قَالَ : أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَخَوَّلُنَا بِهَا ، مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا .

ما أحوج العباد الى ما يَقرع أبواب القلوب ، ويُذكّرهم بعلّام الغيوب ، ويُرشدُهم الى كلّ ما هو محبوب ، ويَدلّهم على كلّ مرغوب ، ويُبيّن لهم كلّ مطلوب ، فالناس عن الحقّ غافلون ، وهم الى الموت صائرون ، وللأحبّة مفارقون ، وللدّيار مغادرون ، ولكنّهم ساهون ونائمون لكثرة انشغالهم بالدّنيا الفانية ، وقسوةِ قلوبهم وإعراضِهم عن الآخرة الباقية ، وما يَعرِض لهم من فُتورٍ وضَعف في الإيمان ، وتفريط وتفويت في مقامات الإحسان ، والله المستعان . 

الخاطرة الثالثة عشرة : خاطرة بين يدَي (( النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير الموصلي ت: 606 هـ)) 

عقد شيخنا الدكتور عبد الحكيم محمد الأنيس - حفظه الله عصر يوم الجمعة 9/محرّم / 1442هـ الموافق 28/8/2020 م ، مجلساً لسماع (( النهاية في غريب الحديث والأثر : لابن الأثير الموصلي (ت: 606 هـ)) وقفة مع المنهج والأهمية 

وقد أجاد أستاذنا وأفاد في عرض شائق ، وأسلوب ماتع ، وبيان سهل ممتنع ، ونكت لطيفة ، وفوائد جليلة ، وفرائد جميلة ، وكانت التحريرات والتقريرات والتعليقات والتحقيقات جامعة مانعة . 

مجلس مبارك ، عقده شيخ مبارك ، في يوم مبارك ، لقراءة كتاب مبارك ، لمؤلف اسمه مبارك ، أدام الله الأول ، وأطال بقاء الثاني ، وأعاد باليُمن الثالث ، وأعان على قراءة الرابع ، ورحم الله الخامس.

وقد خطر لي : أنّ الوقوف على غريب الحديث والأثر من الموضوعات المهمّة التي لا يستغني عنها المؤلفون والباحثون والدارسون في مختلف العلوم والفنون 

فلا غنى للفقيه عنه في استنباط الأحكام ، ومعرفة مراد الشارع ، وتنزيل الحكم على الواقعة ، كما لا غنى للمفسّر من الاطلاع عليه في معرفة العلاقة بين النصوص التي يفسّر بعضها بعضاً ، وللمحدّثين ارتباط وثيق بهذه المباحث في ضبط الألفاظ النبوية ، وليس الشعراء والأدباء ببعيدين عنه لإفادتهم غريب الألفاظ وجميل العبارات ممن أوتي جوامع الكلم ، ومن جرى على لسانه عظيم الحِكَم .

وهكذا فهو من المهمات ومعالي الغايات التي تنفع أصحاب التصانيف والمؤلفات ، وفيه خدمة عظيمة لما روي عن سيّد السادات عليه أفضل التسليم وأتمّ الصلوات . 

وقد وفّق الله ابن الأثير _رحمه الله _ لخوض هذا البحر الكبير ، والغوص فيه واستخراج اللؤلؤ المكنون والجواهر واليواقيت والدرّ الكثير .

فجاء كتابه النهاية في هذا العلم نهاية ، وهو لكل باحث ودارس غاية ، ولروّاد هذا الفنّ سارية و راية .

الخاطرة الرابعة عشرة : خاطرة بين يدَي كتاب (( تحفة الإخوان في فنِّ البيان للعلامة عبدالعزيز بن سالم السامرائي ت: 1393هـ 1973م)) 

عقد شيخنا الألمعيّ وأستاذنا اللوذعيّ الدكتور عبد الحكيم محمد الأنيس الحلبيّ البغداديّ المقيم في دبي - حفظه الله - مجلساً لسماع مؤلَّف لطيف ، وكتاب ظريف ، في علم شريف وهو كتاب (( تحفة الإخوان في فنِّ البيان للعلامة عبدالعزيز بن سالم السامرائي ت: 1393هـ 1973م )) مساء يوم الجمعة 16/محرّم / 1442هـ الموافق 2020/9/4م 

وقد وقف الشيخ عند أحداث جميلة ، وأحاديث جليلة ، تتعلق بمدينتي سامراء ، ورجالها ذوي العلم والسلوك والسخاء ، وخصّ بيوت الذكر بالثناء ، ومرّ على ذكر لقائه بشيخنا أيوب الخطيب - رحمه الله - وتلاميذه الأجلّاء ، وطاف بنا على آثار عباسية كالمعشوق والملوية 

مجلس علمي ممزوج بالروح ، وأخباره تؤنس القلب المجروح ، مجلس يشفي الغليل ، ويُبري العليل ، والعجيب أنّه مرّ سريعاً مع ما حواه من الفوائد والفرائد . 

وقد خطر لي : أنّ علوم الشريعة منها ما هو وسيلة وآخر غاية ، كما أطلق عليها مشايخنا مصطلحاً معروفاً بعلوم الآلة والجادّة ، ولا غنى لطالب العلم عنهما فلا يصل للثاني من دون الأول ، مع العناية بالأول حفظاً ، واتقاناً ، وفهماً ، وتدقيقاً ، وتحقيقاً مع استحضار كونها آلة ووسيلة لمقصد عظيم وانشغال كريم 

كما ينبغي أن لا يضيّع طالب العلم عمره في تحصيل علوم الآلة على حساب علوم الجادّة.

وقد ظهر هذا التوازن في الموروث العلمي الذي تركه شيخ مشايخنا العلامة عبدالعزيز بن سالم السامرائي في النحو ، والصرف ، والبلاغة ، والمنطق ، والفقه ، وأصوله ، والعقيدة ، والتصوف وغيرها . 

كما جمع بين المنقول والمعقول ، والعلم والسلوك ، والحفظ والفهم ، والتعليم والدعوة ، فكان بحراً عذباً بجنب نهر الفرات ، ابتدأ من سامراء وأروى أرض الأنبار ، ثم استقر في مسقط رأسه بعد تلبية نداء ربّ الأرض والسماء إلا أنّه لم يفارقه لقب محيي العلم على ضفاف الفرات ، وصار قدوة لكل من درس عليه ، أو صحبه ، أو عرفه ، أو سمع عنه مواقف وحكايات .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين