فنُّ الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء (7)

 

عندما يذنبُ العبدُ فهو يرتكب عملاً فيه قبحٌ ودمامة، وهذا العمل بالإضافة إلى الله فيه معصية وجرأة، فهل يليق بالإنسان أن يُسيء إلى نفسه وربه على هذا النحو؟.

إنه يفعل، مهزوماً أمام شهوة غالبة، أو مُنساقاً مع فكرة غبية، فحتى متى تصرعه أهواؤه، ويقوده غباؤه؟.

إنَّ الله عز وجل ينتظر أوبة التائه، وهو يفرح بتوبة عبده، ويقدر الخطوات التي تردُّه إلى سيده.

حسن أن يعرف العبد غلطه، أو يحس قباحته، وأن يتراجع خجلان إلى ولي أمره، وولي نعمته.

البعض يبقى مكانه تحيط به خطيئته، كجيش انهزم، وحصره عدوه يريد الإجهاز عليه.

وآخرون يصحُون قبل فواتِ الأوان، ويجيئون إلى مولاهم يقولون: ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: 16].

لقد ذكرَ الغافلُ، وآبَ الشاردُ، وعلم أنَّ له رباً يؤاخذ ويعفو، ويعاقب، ويثيب، ما كان أنساه وأطغاه! وها هو ذا قد شعر بعجزه وذلِّه، وشعر بأنَّ الله وحدَه هو الذي يمسح عارَه ويداوي جراحَه، ليكن! ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 135].

إنَّ هؤلاء العائدين أرشد سيرة من مذنبين مُصرِّين، أو مُذنبين يلتمسون العفو من أناس مثلهم.

وهنا قد نسأل: لماذا يُستفتح السفر بهذا الدعاء؟ الحقيقة إنَّ السفر الطويل يحدث هزَّة نفسيَّة شديدة، خصوصاً إذا ترك المرءُ بعضه، وانطلق في فجاج الدنيا لا يعرف متى يعود؟ إنَّ هذه الحال تدنيه من ربِّه وتقرره بما أسلف من ذنبه، وتُطلق فمه بطلب الرحمة والغفران.

وفي رواية أخرى أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر، يقول بعد التكبير: (اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البرَّ والتقوى، ومن العمل ما تَرضى، اللهم هوِّن علينا سفرنا هذا، واطوِ عنا بُعدَه، أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وسوء المنقلب، وكآبة المنظر في الأهل والمال..).

وإذا رجع ـ من السفرـ قالهنَّ، وزاد فيهن: (آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون).

وجاء أنَّ الرسول وأصحابه خلال السفر كانوا إذا علوا الثنايا كبَّروا، وإذا هبطوا سبَّحوا.

كأن القافلة المسافرة كلها في صلاة، فهي مع الهبوط في الأودية تسبح ساجدة، ومع الارتفاع على الربى تهتف مكبرة.

أفي حياة هذه تجعل من تمجيد الله شغلها، ومن ذكره والثناء عليه الغناء الذي يريح الأعصاب، ويختصر الزمن.

إنَّ محمداً حوَّل وجْهَ الأرض إلى ساحةٍ من السماء، مَشحونة بملائكة لا ببشر!.

كنتُ في سفرٍ مع ثُلة من الطلاب العرب، وكانت الطائرة التي تحملنا قد شرعت في الهبوط بعاصمة عربية كبيرة، وأحسست قلقاً على مستقبل أولئك الشباب بعد نزولهم، قلت: تُرى أين يسكنون؟ ومن سيعاشرون؟ ومَن من شياطين الإنس يتربص الآن بمقدمهم؟.

وبينما أنا في هواجسي، إذ سمعت أصوات نفر منهم يناجون الله بالدعاء المأثور في هذه الحالات، فقلت في نفسي: لن يضيعوا، إن شاء الله.

أما هذا الدعاء فقد جاء أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها: (اللهم رب السموات السبع وما أظللن، والأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، أسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها، وشر أهلها، وشر ما فيها..).

وفي رواية أخرى: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أشرف على أرض يريد دخولها قال: (اللهم إني أسألك من خير هذه، وخير ما جمعت فيها، وأعوذ بك من شرها، وشر ما جمعت فيها، اللهم ارزقني حياها، وأعذنا من وباها، وحببنا إلى أهلها، وحبِّب صالحي أهلها إلينا).

لقد استوعبت هذه الدعوات آمال الغريب النازل ببلد لا يعرفه، وجعلته يتحرَّك، وهو آوٍ إلى ربه، مفوِّض إليه أمره، مُستريح إلى كفالته حيثما توجَّه.

والتوجُّه إلى الله بطلب الأنس والحماية لم يكن يفارق الرسول في أي محيط ينزل به، ويستجمُّ قليلاً ثم يستأنف الترحال، والفقر إلى الله تعالى صفة مُلازمة لكل مؤمن وهو بهذا الوصف يَستغني عن الناس، ويتحصَّن من متاعبهم، عن خولة بنت حكيم رضي الله عنها: سمعتُ رسولَ الله يقول: (من نزل منزلاً ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك).

وكلماتُ الله التامَّات، ما يكفل الله به فضله على خلقه، من خزائن رحمته، فلا يحتاجون بعدها إلى غيره، تدبر قوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا﴾ [الأعراف: 137] وقوله: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنعام: 115] والكلمات المعنية تكوينية لا تكليفية، يأذن الله فيها بحماه، وغناه لمن دعاه ورجاه!.

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سافر فأقبل الليل قال: (يا أرض، ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك، وشر ما فيك، وشر ما خلق فيك، وشر ما يدب عليك).

(أعوذ بك من أسد وأسود ـ وحش وإنسان ـ ومن الحية والعقرب، ومن ساكن البلد، ومن والد وما ولد).

الوالد والولد قيل: هما إبليس وذريته: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ﴾ [الكهف: 50] ويجوز الأراذل من أبناء آدم، فأذاهم محذور، والاستعاذة منهم واردة.

والأرض الفضاء ـ خصوصاً الصحراء ـ تكثر فيها الهوام الطائرة والزاحفة، ويتقى ما يختبئ فيها، وما يبدو عليها. 

وعندما يرجع المسافر إلى وطنه وتقرُّ عينه برؤية أحبَّتِه ينبغي أن يشكر ربه فيقول: الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات؟ وهي كلمة تُقال في كل ما يسر.

وينبغي أن يقول له أهل بيته: الحمد لله الذي جمع الشمل بك، أو: الحمد لله الذي سلمك.

وجاء أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قفلَ من غزو فلما دخل استقبلته عائشة رضي الله عنها فأخذت بيده، وقالت: الحمد لله الذي نصرك وأعزك وأكرمك!.

يتبع 

الحلقة السابقة هـــنا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400 هـ.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين