فنُّ الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء (6)

معْ مطلعِ كلِّ صبح، ومع انطلاق الأحياء في فِجَاج الأرض يحصلون ويؤثلون، يُذكر النبيُّ للناس هذه الحقائق. عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكاً تلفاً).

وفي حديث قدسي: (عبدي أَنفق أُنفق عليك، يدُ الله ملأى لا تَغيضها نفقةٌ، سحَّاء الليلِ والنهار، أرأيتم ما أنفقَ منذُ خلقَ السموات والأرض؟ فإنَّه لم يَغِضْ ما في يَدِه).

وقد بيَّن النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ النفقة لا تُقبل إلا إذا كانت من كسب طيب، وأنَّ الله تعالى كلَّف الرسل خاصَّة، والناس عامَّة أن يتحرَّوا في معايشهم الحلال وحدَه، فقال للأولين: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾ [المؤمنون: 51]. وقال للآخرين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة: 172].

ونشأ عن هذه التعاليم مجتمع يحنو أغنياؤه على ضعفائه، ويبرؤون من عبادة المال، ويرفضون مصادِرَه المريبة.

وكانت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمامهم شعاعاً هادياً، فإنَّ الرسول بإزاء الدنيا والمال كان يجمع بين منقبتي الغني الشاكر، والفقير الصابر.

نعم فقد كان ذا مال: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [الضحى: 8]، وكان غناه من تجارته الرابحة في مال زوجه خديجة رضي الله عنها أيامَ شبابه، ثم كانت أنصبته من الخمس والفيء شيئاً طائلاً.

لكنه لم يستحوذْ على شيء من هذا كلِّه، بل كان يضعُه في حاجات الفقراء، وربما ظلَّ يعطي وظلَّ أهلُ بيته كذلك حتى يستنفدَ العطاء كلَّ ما لديهم، فيمسون، وليس لديهم ما يُغني من جُوع.

والمعروف في سيرته صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه ـ وهو في مرض الموت ـ أهمته ذهبية كانت عنده فما استراح حتى وُزعت على الفقراء، وتساءل: كيف يلقى الله، وهي عنده؟.

والمعروف كذلك أنَّ أملاكه ليست ميراثاً لأهله، وأقاربه، لقد وُزعت هي الأخرى في سبيل الله.

لقد كان يدعو: (اللهم اجعل رزقَ آلِ محمدٍ قُوتاً) ـ كفافاً ـ، فلما آثر الرفيق الأعلى، كان قبل أن يصلَ إلى السماء أشبه بسكان السماء، ترفعاً عن مطالب الأرض، وزينات الدنيا.

في السفر والعودة:

ما أكثر ما يسافر الناس لشؤون ماديَّة وأدبيَّة، وللسفر مشقاتُه التي بُذلت جهود كبيرة لتذليلها.

ومع ذلك فإنَّ فراق المرء لبيته وأحبابه، وتعرُّضَه لتخفِّف عاداته في يقظته ومنامه وشرابه وطعامه، وانطلاقه مع الأقدار إلى موعدٍ مجهول، لا يَدري بدقة كيف يَنتهي؟ ولا ما يتكشَّف عنه المستقبل؟ كل ذلك يجعل السفرَ عملاً ذا بال في حياة أي إنسان. 

وقد سافر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم مرَّاتٍ في شبابه الباكر، وأيام عمله مع خديجة رضي الله عنها، وبعد البعثة.

وهو يصف مشاعر المسافر ورغباته بصدق، وينتهز حاجته إلى الأنيس والمعين، فيصلُه بربِّه بأشرفِ الذكر، وألطفِ الدُّعاء. 

يقول: (من أراد أن يُسافر فليقل لمن يخلف: أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعُه..). ويشرح ذلك في حديث آخر: (إنَّ الله إذا استُودع شيئاً حَفِظَه).

المهم أنَّك وأنت راحلٌ عن بيتك تذكر أنَّ هناك من لا يغيب عن البيت أبداً إذا غبت أنت عنه، وهو الله، وأنك إذا رجوتَه الحفاظ على ولدك وأهلك، وجعلتهما وديعة لديه، عُدت وهما على خيرِ حال.

والسفر غالباً يُغري الإنسان من أقنعة تحجب طبيعته، ويجرده من أسانيد كانت له ظهيراً إبَّان إقامته، ومن ثَمَّ فإنَّه في فترة ارتحاله يشتدُّ حِسُّه بما يجد، وبما يفقد.

وأدعية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تتواءم مع هذه الأحوال تواؤماً مُثيراً.

جاء رجلٌ إلى النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول له: إني أريد سفراً، زوِّدْني؟ قال: (زَوَّدك اللهُ التقوى)، قال: زدني، قال: (وغفر ذنبك)، قال: زدني، قال: (ويَسَّرَ لك الخير حيث كنت).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله إني أريد أن أسافر فأوصني، قال: (عليك بتقوى الله والتكبير على كل شَرْفٍ) ـ مُرتفع ـ فلما ولَّى الرجل قال: (اللهم اطوِ لَه البُعْد، وهَوَّن عليه السَّفَر).

إنَّ السفر الآن غيره في أيام مضت، لقد مُهِّدت الطرق، وجرت عليها المركبات الآليَّة، وجلس الناس فيها مُستريحين تحملهم الأدوات المبدعة على ظهر الأرض إن شاءوا، وفوق السحب إن رغبوا.

وتقاصرت الأزمنة فما كان يتم في شهور بشق الأنفس، أضحى يتم في ساعاتٍ بجهودٍ محدودة.

ومع هذه الراحات الميسَّرة فإنَّ الأخطار المبثوثة في البر والبحر والجو لم تنعدم، وإن تك قَلَّت.

وما بقيت نسبة ما من المخاطر، فإنَّ دخول المرء في هذه النسبة جائز جداً، والحديث عما يفجأ المسافرين من عَطَبٍ وتلف لا ينقطع، ومن هنا فاستغناء الإنسان عن حماية الله تعالى جُنون.

إنَّ حوادث الطرق في العالم أجمع لا تزال أفدح من شتى الأوبئة والحميات السيئة.

والمنايا رصد للفتى حيث سلك!.

كل شيء قاتل حين تلقى أجلك

وأدبُ النبوَّة في الأسفارِ يوجِّه إلى الاحتماء بالله سبحانه، وارتقاب لطفه. كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول للرجل إذا أراد سفراً: ادنُ مني أودِّعُك كما كان رسول الله يودعنا، فيقول: (أستودعُ اللهَ دينك، وأمانَتَك، وخواتِمَ عملك)

قال ابن عمر رضي الله عنهما: وكان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إذا ودَّع رجلاً أخذه بيده، فلا يدعها حتى يكونَ الرجلُ هو الذي يدعُ يدَ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم.

إننا بإزاء عاطفةٍ جيَّاشة غامرة فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم يَسْتبقي يدَ المسافر في يده، لا يزهدُ فيه ولا يتعجَّله، ويرسلها عندما يشاء المسافر الانطلاق لشأنه، ويدعو الله له بثلاثة أمور، أن يصونَ دينه، وأن يعينه على النهوض بمسؤولياته التي يرتبط بها، وأن يجعل ختامَ أعمالِه حسناً، فقد يخطئ أو يعثر، لكنه ينهض، ويصلح أمره كله، ويتمه على خير.

ما يحتاج المسافرُ إلى أكثر من ذلك، اللهم إلا الشعور المتجَدِّدُ بما يسوقُ الله من نعم حيناً بعد حين، وذاك ما أبانه حديثٌ آخر. قال عليُّ بنُ ربيعة: شهدت عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه أتى بدابَّةٍ ليركبَها، فلما وضع رجله في الركاب قال: باسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله، ثم قال: سبحان الذي سخَّر لنا هذا وما كنا له مُقْرنين ـ مخضعين ـ وإنا إلى ربنا لمنقلبون، ثم قال: الحمد لله ـ ثلاثاً ـ ثم قال: الله أكبر ـ ثلاثاً ـ ثم قال: سبحانك اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

ثم ضحك علي بن أبي طالب، فقيلَ: يا أميرَ المؤمنين من أيِّ شيءٍ ضَحِكْتَ؟ قال: إني رأيت النبيَّ فعل مثل ما فعلت، ثم ضحك، فقلت: يا رسول الله من أي شيء ضحكت؟ قال: (إنَّ ربَّك سبحانه وتعالى يعجبُ من عبده إذا قال: ربِّ اغفر لي ذنوبي، يعلمُ أنَّه لا يغفر الذنوب غيري).

يتبع 

الحلقة السابقة هـــنا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400 هـ.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين