فنُّ الذكر والدعاء عند خاتمِ الأنبياء (5)

ونتساءلُ بعدئذٍ عن علاقةِ محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم بالدنيا؟ أكان يحبُّها أم كان يَعَافُها؟

ونجيب: إنَّه كان يعرفُ الدنيا معرفة الخبير، ويتذوَّقُها تذوقَ المعافى السليم، بَيد أنَّه كان مَشْغولاً عنها بما هو أعظم وأشرف.

إنَّ المجد الإلهي استغرقه، فجعل في الصلاة قُرَّة عينه، وفي الصيام مسرحَ روحِه، وفيما عند الله شُغُلاً عن كل جاهٍ يسعى إليه طلاب الجاه.

وقد فرض هذا النمط من الحياة على زوجاته، وأفهمهنَّ إنَّ طالباتِ الدنيا لا مكان لهنَّ عنده: ﴿إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ [الأحزاب: 28].

ولكنهنَّ شغلن بما عناه، واجتهدن أن يرتفعن إلى مستواه، من الذكر والعبادة وطول الإقبال على الله تعالى، عن جويرية أم المؤمنين رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم خرج من عندها بكرة، حين صلى الصبح، وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى، وهي جالسةٌ فيه، فقال: (ما زلتِ اليوم على الحالة التي فارقتك عليها)؟ـ من اعتكاف وتعبد ـ قالت: نعم!.

فقال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: (لقد قلتُ بعدك أربع كلمات ثلاث مَرَّات لو وُزنت بما قُلتِ منذ اليوم لوزنتهنَّ: سبحان الله وبحمده، عددَ خلقه، ورضا نفسه، وزِنَةَ عرشه، ومِدادَ كلماته).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْ أَقُولَ سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ».

إنَّ سعادته، وهو يردد هذه الكلمات، ويستجلي معانيها، أشهى لديه من امتلاك كل ما أضاءَه النهارُ في دنيا الناس.

وهب أنَّه ملك القناطير المقنطرة في الذهب والفضَّة، ما عساهُ يفعلُ بها؟ لقد قال: إنه لو كان لديه مثل جبل أحد ذهباً ما مرَّت عليه ثلاث ليال وعنده شيء منه، كان سيفرِّقُه في حاجاتِ الفقراء، ولو بقي شيءٌ لرصده لعوارضِ المسغبة والبأساء التي تطرأُ على الناس.

ولقد كان يملك الوادي من الشاء والنَّعَم فلا تغيبُ الشمس إلا وهو في أيدي العفاة.

إنَّ حبَّه كان لشيء آخر: لله، لكتابه، لمناجاته، لمرضاته.

واسمع إليه يشرحُ مشاعِرَه نحوَ القرآنِ العظيم: 

عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ إِذَا أَصَابَهُ هَمٌّ وَحَزَنٌ: اللهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحًا "، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ؟ قَالَ: " أَجَلْ، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ " [رواه أحمد، والحاكم، وصحَّحه].

إنَّ الوحيَ أساسُه فكيف لا يكون أنيسَه الدائم؟ كان في سفره يقطعُ المفاوز، وهو به يصلي، وفي إقامته كان وعيه نسيجاً من معانيه.

وجاء أنه طلب من الصحابي الكبير عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن يقرأ عليه القرآن! فقال ابن مسعود: أقرأ عليك وعليك أُنزل؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إني أحبُّ أن أسْمَعَه من غيري)، ويقرأ عبد الله من أول سورة النساء حتى يصل إلى قوله سبحانه: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 41] والتفتَ إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا عيناه تذرفان، قال له: (حسبك).

ويواصل الصيام، فلا يفطر مع الغروب، ويحاول بعضُ صحبِه أن يُقلِّدَه فيقول لهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مانعاً: (إنكم لستم كهيئتي، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني).

إنَّ تَبَتُّلَه إلى الله تعالى أحدثَ تغييراً عضوياً في كيانه البشري، وجعله يتقلَّل تقللاً خطيرا من الطعام والشراب، لأنَّه يحيا في ملكوت آخر.

ومع هذا البعد الروحاني الساحق فقد كان يَعيشُ بين الناس خَبيراً بطباعهم، شاعراً بقضاياهم، يبيتُ فيها باسم الله، فما ينحرفُ قيدَ أنملةٍ عن الصراط المستقيم.

هل يمكن أن يكون موقفُنا نحن من الدنيا على هذا الغرار؟ لا، ما نستطيع ولا كُلِّفنا.

إنَّ بعض الفقراء والزهَّاد والمتصوِّفة حاول أن يخاصم الدنيا، ويعيش على هامشها، وأن يتشبَّه برسل الله في سيرتهم المترفِّعة، وهيهات!.

إنَّ حُمرة الخجل لا تصنعها بعض المساحيق المجلوبة، والأزهار الصناعيَّة قد يكون بها شبهٌ من الأزهار الطبيعيَّة، بل لعلها أبقى على الأيام. لكن أين عصارة الحياة، ونعومة الملمس، ونفح الرائحة الذاتيَّة ؟.

ربما نام ناسٌ على الحصير فانطبعت عيدانُه في جلودهم. هل يمنحهم ذلك شبهاً بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي رمق الدنيا بنظرة غائبة لأنَّ فؤاده حاضرٌ مع ربِّه، يقظان في حضرته، مُستغرق في شهوده؟ إنَّ الرجل لا يكون قائداً لأنَّه عثر على بدلة قائد فلبسها.

إنَّ لجمهور الناس موقفاً من الدنيا شرحه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهم، نحب أن يعرفوه، وحسبهم شرفاً أن يَلتزموه.

كان لقارون دنيا عريضة وثراءٌ تشدُّ إليه العُيون، وكان عُشَّاق الحياة ينظرون إليه ويقولون: ﴿يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ﴾ [القصص: 79].

ولم يطلبِ الله من قارون تطليق هذه الدنيا، لقد طُلب إليه أمور تُعدُّ على الأصابع.

من مَوَّلك وكان يمكن أن تحيا صُعْلوكاً؟.

إنَّه الله. إذن انظر إلى مالك وقل: ما شَاء الله، لا قوَّة إلا بالله.

بيد أنَّ المغرور قال: عبقريَّتي هي سر غناي... ولو فرضنا جدلاً أنَّ هذا القول صحيح، فمن الذي منحك الذكاء، والمضاء؟ 

إنَّه الله، ولكنَّ الغافل لا يحسُّ.

إنَّ الله تعالى عندما يُعطي يطلب الاعتراف بعطائه فهل هذا تكليف صعب؟!.

وهو يطلبُ من آخِذِ فضلِه أن يرحمَ ولا يقسو، وأن يعتدلَ ولا يَطْغى، وأن يُصلِحَ ولا يُفْسِد، وقد قال لقارون: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ﴾ [القصص: 77].

ولكن المؤسف أنَّ ناساً كثيرين يَمْنحهم اللهُ الدنيا فيذكرون أنفسهم ولا يَكترثون بغيرهم، ويُضاعفون مُتَعهم على حساب الجياع، ويعصفُ بأحلامهم الغرور فينظرون إلى الناس من فوق.

وقد حذَّر اللهُ سبحانه عبادَه المؤمنين من هذا الطيش، وقال لهم: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُلۡهِكُمۡ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ٩ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقۡنَٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنِيٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ١٠﴾ [المنافقون: 9-10]

وفي السيرة الشريفة حثٌّ موصول على الصدقة، وزجرٌ شديد عن الشحِّ، وقد ثبت أنَّ الفلسفاتِ الكافرة التي أغوت الجماهير ما نبتت ولا نمت إلا في بيئات الكزازة، والقسوة، والأثرة العمياء.

يتبع 

الحلقة السابقة هـــنا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400 هـ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين