فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء (4)

معركة الخبز:

يخرج المسلم من بيته ليباشرَ العملَ الذي يؤدِّيه، إن كان موظفاً فإلى مكتبه، وإن كان عاملاً فإلى مصنعه، وإن كان تاجراً فإلى دكَّانه، وإن كان فلاحاً فإلى حقله.

والناس يغدون إلى أعمالهم، وشؤون الرزق مُسْتولية على أعصابهم، مُستحوذة على أفكارهم، إنَّهم يريدون الكثير لأنفسهم وأهليهم، المقلُّ يريد سَعةً، والموسع يريد مُزيداً، ومآرب الحياة لا تقفُ عند حدّ، والقوى المبذولة وراءها تستنفد الطاقة.

ترى كم تستهلكه هذه الساحة من جهود البشر؟ كأنَّ صاحب الرسالة الخاتمة كان يستحضر هذه المشاعر، وهو يُناجي ربَّه عندما يخرج من بيته يقول: (باسم الله، توكلت على الله، اللهم إني أعوذ بك من أنْ أَزِلَّ أو أُزَلَّ، أو أَضِلَّ أو أُضَل، أو أَظْلِمَ أو أُظلم، أو أَجْهَل أو يُجهل علي..).

إنَّه لا يريد غلباً على أحد، إنَّه يريد النجاة من الزلل يقع فيه أو يوقع أحداً فيه، إنه يبغي الهدى لنفسه ولغيره، إنَّه يستعيذ بالله أن يجهل على أحد أو يجهل عليه طاغٍ مفتون، إنَّه يكره الظلم في صوره كلها!.

بذلك يدعو ربَّه، ويستمدُّ منه العون، وقد طلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من كل مسلم عندما يغدو من بيته لما يهمُّه من شأنه أن يوثق رباطه بربِّه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال ـ يعني إذا خرج من بيته ـ بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: هُديت، وكفيت، ووقيت).

إنَّ مخالطة الناس تعرِّض المرءَ لمشكلات جمَّة، وقد يتولَّد من الاحتكاك شر حارق.

واليقظة العقليَّة مهما كانت حادَّة لا تغني عن حماية الله وهو سبحانه يقي من اعتمد عليه ولاذ به.

بل ينبغي للمسلم أن يتَّهم قواه الذاتيَّة، وأن يرمق باستعطاف العون الأعلى، قائلاً كما علَّمه نبيُّه صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت إذا شئت تجعل الحزن ـ الصعب ـ سهلاً).

وعندما تضطرب أحوالُ العيش، وتبرز صعوبات مُقلقة، يزداد تشبُّثه بربِّه، فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم (ما يمنع أحدكم، إذ عَسُر عليه أمر معيشته، أن يقول إذا خرج من بيته: بسم الله على نفسي ومالي وديني، اللهم رَضِّني بقضائك، وباركْ فيما قُدِّر لي، حتى لا أحبَّ تعجيلَ ما أخَّرت، ولا تأخيرَ ما عجَّلت).

سبحان الله؛ أيُّ علم بالنفس البشرية ومتاعبها كان عند هذا الرسول؟ وأيُّ خزائن ملأى باليقين كان يمنح منها هذا وذاك ليستبقي العلاقة بالله ثابتة هادئة. 

عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: «أَنَّ رَجُلًا اشْتَكَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَحْشَةَ، فَقَالَ: " قُلْ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ، رَبِّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ [جَلَّلْتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْعِزَّةِ وَالْجَبَرُوتِ " فَقَالَهَا الرَّجُلُ فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ الْوَحْشَةَ]». [قال الهيثمي في المجمع: رواه الطبراني، وفيه محمد بن أبان الجعفي، وهو ضعيف].

هذا رجلٌ من أولي الحساسية الذين يجنحون إلى العزلة، ويتطيرون من الخلائق، لعله من النوع الذي يقول:

وإن امرءا يُمسي ويصبح سالماً = من الناس - إلا ما جنى – لسعيد

لكن الحياة لا تتطامن لهؤلاء وترضيهم، فهم منها على وجل، وما تنقضي حاجتهم إليها، وقد ذهب يشكو إلى الرسول هذا الاستيحاش المعنت، فنصحه بذلك الدعاء، الذي يدفعه دفعاً إلى الأُنس بالله تعالى.

على أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يكره تحوُّل الوحشة إلى عجز، أو أن يكون ذكرُ الله سِتَاراً لهزيمة نفسيَّة لا تليق، عن عوف بن مالك رضي الله عنه: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين رجلين، فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل.. فقال رسول الله: (إن الله تعالى يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس ـ بالعقل والعزم والمثابرة ـ فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل).

إنَّ البصرَ الثاقب لم تفته حالة الرجل المحكوم عليه، لقد ملكه الفشل فولَّى يستر ضعفه واستسلامه بهذه الكلمة: حسبي الله ونعم الوكيل، إنها هنا كلمة حق أريد بها باطل.

عندما قال هذه الكلمة الذين هُزموا بالأمس في أحد، ثم أصبحوا يتحاملون على جراحهم، ويحشدون آخر ما لديهم من وِسع ليثأروا من مشركي مكة لم يضعفوا، نعم لما قيل لهم: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران: 173].. قالوا: ليبارك الله في عزمهم وبذلهم واستئنافهم لجهاد المبطلين.

للكلمة هنا معناها المحبوب المقبول.

وما يجوز أن تقال الكلمة تسليماً بالأمر الواقع، وتقاعساً عن تغييره، وانتظاراً من السماء أن تدافع عمَّن لا يدافع عن نفسه.

لابدَّ لضمان السماء من سعي، لابدَّ للأمل من عمل. من أجل ذلك قال عمر رضي الله عنه: لا يقعدُ أحدكم عن طلب الرزق ثم يقول: اللهم ارزقني، وقد علم أنَّ السماء لا تمطرُ ذهباً، ولا فِضَّة.

على أنَّ الحياة المعاصرة لا تشكو من مُتوكِّلين لا يعملون، وإنما تشكو من عاملين لا يتوكلون، فإنَّ الصبغة الماديَّة سادت القارات المعمورة.

والناس يغدون من بيوتهم وهم يتلهَّفون على صيدٍ ثمين ينقضُّون عليه، وإذا أمكنتهم الفرص من مأرب سال لعابُهم لآخره؟ إنهم يأكلون ولا يشبعون، ويشربون ولا يرتوون.

وفي هذه الحمى لا تعلق للقلب إلا بالمزيد من الحطام.

فإذا حدث أن استعصى رجل على هذا المنحدر، وتراجعت إلى فؤاده خصائصه العليا، واستبان وجه ربِّه وسط ركام من ضبابِ الأهواء، فذكر اسمه، ووحيه، وتشبَّث بآياته وتوجيهاته، فأي ثواب يكون له؟

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حيٌّ لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة).

إنَّ هذا الأجر الجزيل ليس لألفاظ تمرق من الشفاه، إنَّها لحال من الثقة في الوجود الأعلى، والفضل الأعلى، تجعل الرجل يركن إلى من بيده الخير، فلا يحتال، ولا يَغْتال.

وقد أكَّد الأئمة أنَّ هذه الأجور الكبيرة لا توضع بإزاء الأعمال الصغيرة، ولا الهمم الصغيرة!.

وفي ميدان الارتزاق والكدح للنفس والولدان، قد يختلط الطيب والخبيث والنقي والمغشوش، والمسلم يعلم أنَّه لا يدخل الجنَّة لحمٌ نبت على سُحت، وأنَّ الله طيب لا يقبل إلا طيباً، ومن ثَمَّ وجب على المؤمن أن يتحرَّى، وقد علَّمنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هذا الدعاء: (اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك).

(اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقا طيباً، وعملاً متقبلاً).

وفي زحام الدنيا ربما تعرَّض المرء لما يسوؤه، وربما استنفره السفهاء ليجهل عليهم، أو ليثأر لنفسه منهم، وخير له إذا خرج من بيته أن يضمر التجاوز والسماحة. 

عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمٍ» ؟ قَالُوا: مَنْ أَبُو ضَمْضَمٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " كَانَ إِذَا أَصْبَحَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِي وَعِرْضِي لَكَ، فَلَا يَشْتُمُ مَنْ شَتَمَهُ، وَلَا يَظْلِمُ مَنْ ظَلَمَهُ، وَلَا يَضْرِبُ مَنْ ضَرَبَهُ " [رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة]. 

وزحام الدنيا غاصٌّ بالمثيرات النفسيَّة والاجتماعيَّة، والإقبال عليها ناشب بأعماق النفس، والأمر يحتاج إلى أن نشرح موقف الأنبياء منها، تمهيداً لإيضاح موقف النبيِّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم.

الأنبياء بشر أمثالنا، ومناصبهم العالية لا تسقط عنهم مشاق التكاليف ولا تريحهم من أعباء الواجبات المفروضة، بل الصحيح أنهم أشد بلاءً، وأكثر عناءً، وذاك معنى قول العلماء: العصمة لا تمنع المِحْنة، أي لا تمنع الاختبار، وضروب التمحيص.

كان يوسف بشراً يضيق بالسجن ويتشوَّق للحرية، يوم قال للسجين الذي يتوقَّع الإفراج عنه: اذكرني عند ربِّك.. ولم لا يذكره، وهو بريء مظلوم؟ وهذا السجين الخارج يعرف عن يوسف أنَّه من الصالحين المحسنين، فليحدِّث عنه الملك الذي سيعمل معه.

وشاء الله أن ينسى السجين الخارج، وأن يبقى يوسف بضع سنين.

حتى جاء اليوم المقدور، وأرسل الملك إلى يوسف يستقدمه، ولكن يوسف كان قد بلغ حداً من الاكتمال والتأني جعله يتريَّث في الاستجابة ويقول: أولاً اعرفوا موقفي من القضية التي اتهمت فيها!.

ثم خرج يوسف عليه السلام ليتولى شؤون المال في مصر.

وكان موسى عليه السلام بشراً يحسُّ لذع الغربة في أرض مدين، فلمَّا سقى للفتاتين آوى إلى الظل وناجى ربه: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: 24]..

وجاءه الغوث إذ وجد المأمن المنشود، عند سَيِّد مَدْيَن الذي قال له: ﴿نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص: 25] ثم تزوَّج ابنتَه، وعاشَ في صحبته، وتهيَّأ للرسالة الضخمة.

وكان لوط عليه السلام بشراً عندما داخله الحرج الشديد، لمَّا رأى المجرمين من قومه ينظرون بخِسَّة وشر إلى وفد الملائكة عنده.!.

لقد تمنَّى لو كان ذا عصبيَّة يؤدِّب بها السَّفَلة، حتى طمأنته الملائكة إنَّ مصير القوم يقترب. 

﴿وَلَقَدۡ صَبَّحَهُم بُكۡرَةً عَذَابٞ مُّسۡتَقِرّٞ٣٨ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر:38-39].

إنَّ تعليق النبيِّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم على بعض ما سقنا من قصص ينبئ عن جانب من أخلاقه.

يقول عن لوط عليه السلام: (رحم الله لوطاً، كان يأوي إلى ركن شديد). يعني إنَّ الله سبحانه ما كان ليتركه، وما كان له أن يأسى على عصبية مفقودة.

والواقع إنَّ إحساس محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالله تعالى وتأييده لا نظير له، ولقد سُمي (المتوكل) لهذه الخلة البارزة.

إنَّ هذا الاعتماد الفذَّ على الله تعالى هو الذي أمدَّه بالقوة على نشر عقيدته، وتبليغ رسالته في عالم كل شبر منه يتنكر له، وأول من صرخ في وجهه يتهدَّدُه عمُّه أبو لهب؟ ما كانت توجد ذرَّةٌ من أمل في نجاح هذه الدعوة لولا أنَّ صاحبها استند إلى الله، ومضى إلى غايته، لا يُثنيه شيء.

وتعليقه على كلمة لوط الذي يوحي بالقوة والثقة غير تعليقه على كلمة يوسف الذي يوحي بالتواضع وهضم النفس إنه يقول: (لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي).

أي لاستعجلت الفرج، وتركت السجن، غير مُنتظر سؤال النسوة وجوابهن المعروف.

إنَّه هنا ـ مع تواضعه البادي ـ يقرِّر الطبيعةَ الإنسانية في التلهُّف على الحريَّة، وكره عالم السدود والقيود.

والذي نخلص منه بعد هذا التقديم أنَّ الأنبياء تهزُّهم المشاعر الفطريَّة التي تهز جمهرة البشر، وأنَّهم عندما يقدمون في مواطن الوغى لا يأخذون أماناً من الموت، وعندما يبذلون المال لا يأخذون ضماناً من الفقر.

إنَّ أخلاقهم العُلا تكلفهم كلَّ مغارم العظمة التي يدفعها الآخرون.

ويبقى بعد ذلك تفرُّد المرسلين بأن أوجهم الذي يعيشون فيه لا يسمح لهم أبداً بالتدلي، فهم أزكى مكاناً، وأسنى مَنَالاً.

يتبع 

الحلقة السابقة هـــنا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400 هـ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين