فنُّ إدارةِ الشَّهوات

لا أعتقد أنَّ أحداً من المسلمين يجهلُ صفة هؤلاء السَّبعة الذين تكفَّل الله تعالى بجعلهم في ظلِّه، بينما يكتوي بقيَّة النَّاس بحرِّ الشَّمس ولهيبها.

ولكن هل خطر في بالنا مرَّةً أن نسألَ أنفسنا: ما هو القاسم المشترك بين هذه الأصناف يا ترى؟ وما الذي جمعهم في هذه المنزلة الرَّفيعة بينما حُرِمَ غيرهم منها.

إنَّ غرق الإنسان في مستنقع شهواته مؤشِّرٌ خطيرٌ يهدِّدُ الأفراد بمغادرة مرتبة الإنسانيَّة إلى البهيميَّة، ويهدِّدُ المجتمعات والحضارات بمغادرة مرحلة الرُّقيِّ والقوَّة إلى الانحطاط وضياع الهُويَّة.

ودعونا نرجعُ إلى الحديث الشَّريف لنستعرض أصنافه السَّبعة:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ فأَخْفَاها حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ" متَّفقٌ عليه.

لقد ضحَّى الأوَّل بشهوة: (الظُّلم والتَّسلُّط)، وضحَّى الثَّاني بشهوة: (التَّفلُّت والتَّصابي)، وضحَّى الثَّالث بشهوة: (اللهو وحبِّ الدُّنيا)، وضحَّى الرَّابع بشهوة: (الأنا والتَّفرُّد)، وضحَّى الخامس بشهوة: (الجسد)، وضحَّى السَّادس بشهوة: (اكتناز المال وحبِّ الرِّياء والسُّمعة)، وضحَّى السَّابع بشهوة: (الغفلة والرَّاحة).

وإذا كان الجزاء في ديننا من جنس العمل، فالله وحده يعلمُ كم عانى هؤلاء من لظى شهواتهم وإحراقها حتَّى تروَّضت واستقامت، فكان من فضل الله تعالى ألَّا يجمع عليهم حَرَّين حرَّ الشَّهوة وحرَّ العذاب.

لقد ذُكِرَت كلمةُ: "الشَّهوات" في كتاب الله تعالى ثلاثَ مرَّاتٍ، مرَّةً في تثبيت واقعيَّتها وإقرار وجودها: (زُيِّنَ للنَّاسِ حُبُّ الشَّهواتِ من النِّساءِ والبنينَ والقناطيرِ المقنطرةِ من الذَّهبِ والفضَّةِ والخيلِ المسوَّمةِ والأنعامِ والحرث) (آل عمران: 14). ومرَّتين في ذمِّ وضعها في غير ما أراد الله لها، وتجريمِ عبادتها والاستسلام لها: (فخلفَ من بعدهم خَلْفٌ أضاعوا الصَّلاة واتَّبعوا الشَّهوات فسوفَ يلقونَ غَيَّاً) (مريم: 59). (واللهُ يريدُ أن يتوبَ عليكم ويريدُ الذينَ يتَّبعونَ الشَّهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً) (النِّساء: 27).

ومن هنا نعلم أنَّ الإنسان قد يرقى بشهواته إلى أعلى الدَّرجات وأفضل القربات، وقد ينحدر بها إلى أسفلِ الدَّركات وأحطِّ المرتبات، والإنسانُ العاقلُ إمَّا أن يرقى بشهواته صابراً أو يرقى بها شاكراً.

أرأيتم - على سبيل المثال - إلى الإنسان وهو يهتكُ بشهوة الجسد الأعراض وينشر الأمراض ويدمِّر الفضائل والأخلاق، إنَّه ذاته الذي باستطاعته أن يحصِّن بها نفساً ويبني أسرةً ويُنشئ جيلاً.

أرأيتم إلى الغنيِّ الذي جعل من المال وسيلةً إلى التَّسلُّط والظُّلم، وسبباً للكبر والطُّغيان، وأداةً لشراء الذِّمم وارتكاب المحرَّمات، إنَّه ذاته الذي باستطاعته أن ينشر الخيرَ في أرجاء الأرض، فيُطعم فماً جائعاً، أو يعمِّر مسجداً يزدحم فيه المصلُّون، أو يكفل أسرةً كادت تسقط أوتنحرفُ فإذا بها تتماسك وتتعافى. 

إنَّ هذا المعنى باختصار يمكن أن نسمِّيه بـــــــــ: "حياديَّةُ الشَّهوة" فهي صديقةٌ إذا أوجدت لها القناة الصَّالحة العفيفة، وهي عدوَّةٌ إذا أوجدت لها القناة الملوَّثة المنحرفة.

لا تلم شهواتك أيُّها الإنسان. إنَّه اختيارك واستعمالك واكتسابك، وربَّ شهوة ساعةٍ أورثت حزناً طويلاً.

تأمَّلتُ في حال العظماء ومن بلغوا سُدَدَ المجد ومراتب السُّؤدد فألفيتهم أناساً غلبت هممُهم شهواتهم.

لقد تعالى يوسفُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - على شهوته فصار عزيز مصر، وتعالى عثمان - رضي الله عنه - على شهوته فاستحقَّ وسام: "ما ضرَّ عثمانُ ما فعل بعد اليوم"، وهجر قومٌ شهوة الرَّاحة ولذيذ المنام فهجعوا قليلاً واستغفروا كثيراً، فاستحقُّوا مرتبة المحسنين: (... إنَّهم كانوا قبلَ ذلكَ محسنينَ - كانوا قليلاً منَ الليلِ ما يهجعونَ - وبالأسحارِ هم يستغفرون) (الذَّاريات: 16 - 17 - 18). 

وإذا كانت النُّفوسُ كباراً تعبت في مرادها الأجسامُ

يُسارع النَّاس في مرحلةٍ مبكِّرةٍ من حياة أولادهم إلى تعليمهم فنون العلم والقتال، أو فنون قيادة المركبات والمجتمعات، أو فنون التِّجارات والزِّراعات والصِّناعات، وكلُّ هذا ليس بمشينٍ ولا ضائعٍ ولكنَّها ستصبحُ وبالاً على أصحابها وعلى أمَّتهم إذا لم نعلِّمهم فنونَ قيادة وإدارة الشَّهوات.

وهو موضوعٌ كبيرٌ وهامٌّ ينبغي أن يوليه المربُّون والمصلحون جلَّ وقتهم وصدارة جهدهم، وأذكرُ على سبيل المثال لا الحصر بعضَ مبادئ إدارة الشَّهوات:

1- تشخيصُ الحالة: وهو من أهمِّ ما ينبغي التَّركيز عليه ومعرفته، حيث يبدأُ الإنسان مجرِّباً للشَّهوة، ثمَّ يصبحُ معتاداً لها، ثمَّ مدمناً عليها (المجرِّب، المعتاد، المدمن). 

2- تعزيزُ خطوط الدِّفاع: لقد قرن الله تعالى إضاعة الصَّلاة مثلاً باتِّباع الشَّهوات، فهل فكَّرنا مرَّةً أنَّ قطع الصِّلة بين العبد وخالقه يعني إسقاط الخطِّ الأوَّل من خطوط دفاع النُّفوس الطَّاهرة عن استقامتها في مواجهة جيوش الشَّهوات، لا سيَّما إذا علمنا أنَّ جنود الشَّهوات يمتلكون أعتى الأسلحة وأذكى الأساليب، وإذا أردنا أن نقيِّمَ قربَ القلب من الله تعالى فلننظرْ إلى المسافة بينه وبين الشَّهوات، ورحم الله ابن تيمية إذ يقول: "القلوبُ المتعلِّقةُ بالشَّهوات محجوبةٌ عن الله بقدر تعلُّقها بها".

ولنعلمْ أنَّه كلَّما أكثرنا من خطوط الدِّفاع كلَّما صرنا بمأمنٍ من السُّقوط في أسر الشَّهوات، والتي يفضي اقتحامها إلى اقتحام النَّار والعياذ بالله، وهذا المعنى يُفهم من حديث النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلَّم -: "حُجبت النَّار بالشَّهوات، وحُجبت الجنَّة بالمكاره". أخرجه البخاريُّ، وفي روايةٍ لمسلم: "حُفَّت".

3- تضخيمُ نهاية المسار: (ولا تقربوا الزِّنا إنَّه كانَ فاحشةً وساءَ سبيلاً) (الإسراء: 32).

4- تحمُّلُ الألم الأوَّل: يعاني معتادُ الشَّهوةٍ صعوبةً وألماً في بداية الإقلاع عنها، فلا بدَّ من مقاومة الشَّهوة وتحمُّل الألم الأوَّل، وعلى قدر الصَّبر تُرسم ملامح النَّجاح.

5- قطعُ العلائق وهجرُ المنبِّهات: ويُرادُ بهذا قطع جميع ما يذكِّر المصابَ بشهوته، فمن كان مدمن خمرٍ هجر مجالسه، ومن كان مدمن ميسرٍ هجر رفاقه، ومن كان مدمن فاحشةٍ هجر مقدِّماتها، ومن كان مدمن شهرةٍ اعتزل النَّاس والأضواء حتَّى يشفى. 

وفنونُ إدارة الشَّهوات لا يمكنُ أن يحيطَ بها مقالٌ على قلَّة سطوره ومبانيه، ولكنِّي أقول في الختام: 

إنَّ الضَّعيفَ أمامَ شهواته لن يقوى على أن يكون عالماً ربَّانيَّاً يتقدَّم النَّاس في المغارم قبل المغانم، وينهل الطُّلَّاب من حاله قبل مقاله ... وإنَّ عبد شهواته لن يستطيع يوماً أن يثبت في محراب القيم النَّبيلة والمبادئ العالية، ولن يمتلك روح التَّضحية لأجل رسالةٍ أو عقيدة ... وإنَّ المهزومَ أمام شهواته لن يستطيع أن يصمد أمام عدوِّه ليكسر شوكته ويحطِّم غروره ويوقف ظلمه.

قال حكيمٌ: "من يَهزمُ رغباته أشجعُ ممَّن يَهزمُ أعداءه؛ لأنَّ أصعبَ انتصارٍ هو الانتصارُ على الذَّات".

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين