فلسفة الإسلام في الصراحة (4)

أسس فلسفة الإسلام في الصراحة

عندما نتأمل الصراحة من جميع جوانبها نجد أنَّها ليست مستحبة دائما على إطلاقها فقد لا تكون هناك حاجة للتصريح، بل ولا للتلميح، كمن يريد الحديث عن شيء لا يعنيه، وقد يكون هناك احتياج للحديث في مسألة من المسائل ولكنَّ الإيماء كافٍ كما لو كان الحديث بين أشخاصٍ فهموا على المتكلم ولم يترتب على التصريح حكمٌ قضائي،

وعندما ننظر إلى الصراحة من جميع جوانبها نجد أن فلسفة الإسلام في الصراحة تقوم على أًسس عدة من أبرزها:

1- الإحسان

ونعني به في هذا المقام مراقبة الإنسان لربه، وهذه المراقبة لا تكتمل ما لم يشعر المرء أنه عبد لله تعالى، وبذلك يكون كلامه تصريحا أو تلميحا أو سكوتا متماشيا مع المصلحة المتوخاة من ذلك.

2- جلب المصلحة

نقصد بالمصلحة هنا هي المصلحة التي اعتبارها الشارع وحددها وقام بضبطها، وهذه المصلحة سواء أكانت شخصية أو غيرية، فإذا تجلّت المصلحة من المصارحة فإنَّ الصراحة تكون هي الأولى للوصول إلى الحق، وكلُّ ذلك مرهون بعدم التنازل عن الحق الشخصي أو حقَّ الآخرين، مع ملاحظة أنَّ حقَّ الآخرين من النصح لا يمكن التنازل عنه لأنه متعلق بالآخرين، والأمثلة التي يمكن استحضارها في الصراحة للوصول إلى الحق الشخصي كثيرة ومنثورة في كُتُب الفقه، وهي في الحقيقة تقوم على نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية والقواعد العامة في الشريعة، ومن الأحاديث التي يمكن الاستناد إليها قول هند زوج أبي سفيان للنبي عليه الصلاة والسلام: (إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل علي جناح أن آخذ من ماله سرا؟) قال: ((خذي أنت وبنوك ما يكفيك بالمعروف))[18]. فالنبي لم ينهها مع صراحتها، والأصرح من هذا ما ذكرناه سابقا في حديث رفاعة.

وقد تكون المصلحة مرتبطة بجلب النفع للآخرين ودفع الضرر عنهم، والشريعة قامت على جلب المصالح ودفع المفاسد في الدنيا والآخرة، ولأجل هذا أبيحت الصراحة، ولم يَعُد الحديث عن الآخرين غيبة، وقد رأينا النبي عليه الصلاة والسلام يستمع ويحكم لهند مع أنها ذكرته بشرٍّ وهو الشح، والمستثنيات من الغيبة كلها فيها صراحة لكنها تحقِّق مصلحة شخصية أو غيرية أو شرعية كجرح الرواة وذكْر كذبهم[19].

3- مراعاة آداب المروءة والحشمة

تتنوع الصراحة بحسب الموضوع الذي يتم الحديث عنه، خاصة في بعض أنواع الصراحة التي لا تتعلق بالحقوق الشخصية، كما يمكن أحيانا الاستغناء عن الصراحة بالتلميح، أو يكتفى باختيار ألفاظٍ أبعد عن الفُحش، ولعلنا نفهم هذا من قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها))[20].

ودلالة التحريم واضحة في الحديث، ما لم تكن هناك حاجة ماسة تدعو إلى ما ذُكر، فإذا خلا الأمر من الحاجة الداعية فأقلها أنه مكروه؛ (لأنه خلاف المروءة)[21]، ولنلحظ إلى علوِّ ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم وبُعدها عن خدش الحياء باستخدام لفظ "الإفضاء" وهذا يذكرنا بقوله تعالى {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 20، 21]، والإفضاء في هذه الآية هو الجماع ولكنَّ الله تعالى كريم يكني[22]، تعليما لنا في اختيار الألفاظ الموصلة للمعنى المُراد.

يقول النووي: (ومما يُنهى عنه؛ الفحشُ وبذاءةُ اللسان، والأحاديثُ الصحيحة فيه كثيرة معروفة)، ومعناه: التعبيرُ عن الأمور المستقبحة بعبارة صريحة، وإن كانتْ صحيحةً والمتكلّمُ بها صادق، ويقعُ ذلك كثيراً في ألفاظ الوقاع ونحوها.

وينبغي أن يستعملَ في ذلك الكنايات، ويعبّر عنها بعبارة جميلة يُفهم بها الغرضُ، وبهذا جاءَ القرآن العزيز والسنة الصحيحة المكرّمة، قال الله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسائِكُمْ) [البقرة: 187] وقال تعالى: (وَكَيْفَ تَأخُذُونَهُ وَقَدْ أفْضَى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ) [النساء: 21].

وقال تعالى: {وَإنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] والآيات والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة.

قال العلماء: (فينبغي أن يستعملَ في هذا وما أشبهَه من العبارات التي يُستحيى من ذكرها بصريح اسمها؛ الكنايات المفهمة، فيُكنّي عن جماع المرأة بالإِفضاءِ والدخولِ، والمعاشرةِ والوِقاع ونحوها... وكذلك يُكنّي عن البول والتغوّط بقضاء الحاجة، والذهاب إلى الخلاء، ولا يصرّحُ بالخِرَاءة والبول ونحوهما... واعلم أن هذا كلَّه إذا لم تدعُ حاجةٌ إلى التصريح بصريح اسمه، فإن دعتْ حاجةٌ لغرض البيان والتعليم، وخِيفَ أن المخاطَب لا يفهم المجاز، أو يفهمُ غيرَ المراد، صرّح حينئذ باسمه الصريح ليحصلَ الإِفهامُ الحقيقي، وعلى هذا يحمل ما جاء في الأحاديث من التصريح بمثل هذا، فإن ذلك محمول على الحاجة كما ذكرنا، فإن تحصيل الإِفهامُ في هذا أولى من مراعاة مجرّد الأدب)[23].

4- إقامة النظام الاجتماعي الإسلامي على الوضوح

هذا مقصد مهم جدا ينبغي أنْ يُلحظ عند الحديث عن الصراحة، فالصراحة قد تكون مُغضِبة في بداياتها، ولكنَّها حتى عند من يتضرر بها أكثر قبولا من الوجه الآخر المتمثل بالالتواء والغموض، فليس هناك في المواقف التي تحتاج إلى صراحة من بديل عنها، والبديل قد يصل إلى مرحلة الكذب والنفاق، وهما الوجه الآخر للكتمان وتغيير الحقائق، وأكثر خصلة عابها ربنا سبحانه وتعالى على المنافقين هي الغموض العقدي والعملي، فما يخبئه القلب من نفاق نقيض للصراحة العقدية، وما يتلفظ به اللسان من نفاق وكذب ضد الصراحة العملية.

تريد الشريعة من المرء أنْ يكون واضحا، ولذا فإن الصَّراحة لا تصدر إلا من نفوس كبيرة، فليس الخطأ أن تكون صريحا وتعترف بالخطأ، فالاعتراف بالخطأ فضيلة ولا يحصل عادة من النفوس الضعيفة المهزومة، من ذلك مثلا ما يحدث أحيانا بين الشركاء في التجارة أو بين الزوجين من اعتراف أحدهما بالخطأ اتِّجاه الآخر، كأنْ يُطلقها لأنه يريد أن يتزوج عليها، ولها عليه دين مؤخر، فمن الرجولة والصراحة أنْ يعترف أنَّها ما كانت مخطئة؛ لأنَّ بعض الرجال بقصد إكراهها على إسقاط المهر المؤخر قد يفتري على عِرضها تهما باطلة، فالاعتراف فضيلة وهذه لا يقوم بها إلا كبار القوم وعليّتهم.

وإذا كانت الصراحة مطلوبة وفق المصلحة فلا ينبغي الخلط بينها وبين المدارة والمداهنة.

الصراحة أنْ نكون واضحين في كلامنا وأفعالنا من غير مجاملة ولكنْ بطريقة مهذبة ومن غير وقاحة كما سبق، فهي تدلُّ على المحبة أو النصيحة وتخرج من قلب سليم نظيف اتِّجاه الآخرين، والصراحة محبوبة وممدوحة، وقد سبق بيان ذلك، أمَّا المدارة فهي المجاملة والسكوت عن بعض الأشياء طمعا في الاقتراب من الشخص أو مراعاة لمصلحة ما له، أو طمعا في إسلامه، فليس في المداراة موافقة له، بل فيها السكوت الظاهري والموافقة الظاهرية طمعا في مصلحة أكبر منها، وهذا ما أمر الله به نبييه موسى وهارون بمخاطبة فرعون باللين، قال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43، 44]، فالطمع بصلاح شخص مقابل اللين في الكلام أمر مطلوب، وكذا إذا كنَّا نخشى شر شخص ما فيمكن أنْ ندارِه اتِّقاءً لشره.

يتبع...

المصدر: العدد العاشر من مجلة "مقاربات" الصادرة عن المجلس الإسلامي السوري

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين