فكرة




مفهوم عموم الحال:
- حال الإنسان كما في "المعجم الوسيط " هو "ما يختص به من أموره المتغيّرة الحسية والمعنوية".
 ومفهوم عموم الحال هو الغالب على الإنسان من الفعل المحمود أو المذموم، أو هو سياق حياتيّ عام لشخص ما، فعلى ذلك يكون لكل إنسان عموم حال، أي: صورة ثابتة مكونة من مجموع فكره وسلوكه ومواقفه وطباعه، ينشأ عنها رأي واضح عنه، ويلزم منها حكم محدد عليه.
والصورة الثابتة المكونة عن الإنسان، قد تكون صورة إيجابية، وقد تكون سلبية، وهي بمثابة شهادة حسن سلوك، أو عكس ذلك، هذه الشهادة التي نجد بعض الإدارات لبعض الدول تشترطها في ملفات معينة، كما نجد التعامل القانوني مع الجناة يأخذ بعين الاعتبار شهادة الناس بحسن سمعة المتهم وسلوكه، أو سوء سمعته.
وكل صورة من الصورتين الايجابية والسلبية نمثل لهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال العبد يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله تعالى صديقا، ولا يزال يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذابا).
والصورة الايجابية لعموم الحال يصدقها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث"، والذي يجسده التعبير الشائع عند الناس حين يغتفرون لكثير الإحسان بعض الإساءة، يقولون: أخطاء مغمورة في بحر حسناته.


فائدة عموم الحال:
- فائدته أنه يساعد في فهم الشخص، وتقييم أعماله في سياقها، والحكم عليها.
- والحكم على الشخص يكون من حيث المبدأ على الأفعال الظاهرة وليس النوايا، حتى لا تنجر الأحكام إلى الفوضى، وحتى تلتزم أساسًا واضحًا، لكن يبقى إشكال هو أن الفعل الخاطئ أو الفعل الذي يبدو خاطئا قد يكون من ورائه نية صحيحة، أو غاية ليست نبيلة، والعكس صحيح، فيمكن أن يكون وراء الفعل الصحيح مكر وخداع وكذب ونفاق وتلبيس وغير ذلك، من هذا فعموم الحال تعمل على تصويب الحكم أكثر، وكأنها تجعلنا نتعامل مع النية الخفية بطريقة منظمة، إذ أن عموم الحال يثبت وترسخ معالمه مع تناسق الأفعال والأقوال والأفكار السابقة، بل والنوايا كذلك، لأنه لا يمكن لأي شخص كان أن يبطن شيئا ثم يُظهر ما يخالفه باتساق طوال الوقت، وما أحسن قول من قال: "لسان الحال أبلغ من لسان المقال".
-
فالحكم على الشخص يكون بالنظر إلى شيئين:
1- الأفعال: وليس النوايا، لأن النية شيء غيبي، والحكم يكون على الظاهر، والأقوال من الظاهر ولكنها لا تعكس الحقيقة دائما، والأفعال هي التي تعكس حقائق الناس.
2- عموم الحال: وهو الغالب على الشخص من الفعل، وهذا يُعرف بالمعايشة وطول الرفقة، فإذا كان الغالب، مثلا، على نجار إتقان عمله نُسب إلى الإتقان ولو بدر منه بعض المصنوعات المعيبة.
- وعموم الحال أنسب بالقدماء والراحلين إلى دار البقاء، لأن بالموت يكون الإنسان قد استكمل عمومًا سيرة حياته، ورسم الصورة الكاملة. ولكن هذا لا يعني أنه لا يصح التعامل بها مع الأحياء، بل تصح، مع تأكد نسبيتها هنا.
- وعموم الحال يمكن أن نستعملها ارتكازا على سياق حياتي عام، أو ارتكازا على سياق موقف عام.


التطبيق العملي لعموم الحال:

- هذه الفكرة تفيد كما سبق في الحكم على شخص ما، فنحن عند ذلك نستصحب عموم الحال، على اعتبار أن ذلك الموقف جزء من كل، فلا يفهم الجزء ولا ينظر إليه إلا في سياقه كاملا.
ومن التطبيق العملي لهذه الفكرة: أننا نكون بإزاء خطأين متشابهين لشخصين مختلفين، فيختلف الحكم على كل خطأ منهما لاختلاف عموم حال كل من المخطئين. فلا يمكن أن ننظر ونحكم على خطأ من رجل اعتاد الاستقامة كما ننظر ونحكم على الخطأ نفسه من رجل اعتاد الخطأ.
- الذي تعوّد الإساءة ثم بدر منه إحسان حيث لا يُنتظر منه ذلك، قد يكون تلبيسا وخداعًا، كما قد يكون إحسانه توبة عملية، والأمر هنا يستدعي التريث.

- ومن المواقف النبوية التي يبدو أن النبي صلى الله عليه وسلم طبق فيها فكرة عموم الحال، موقفه من حاطب بن أبي بلتعة، حين قام بما يسمى بالمصطلح السياسي المعاصر "خيانة عظمى" يتعدى ضررها إلى أمة المسلمين في ذلك الوقت، وحين هم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقتل حاطب، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه قد شهد بدرا وما يدريك، لعل الله اطلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
فالعفو هنا ليس على واقعة الخيانة العظمى في ذاتها، ولكنها على شخص حاطب في مجمل سياق عمله، ومنه مشاركته في غزوة بدر مضحيا بنفسه.

- كما نجد فكرة عموم الحال متضمنة على ما أظن في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام، كما في في سورة الكهف، فالخضر اشترط على موسى عليه السلام أن لا يسأله عن شيء مما سيرى مما لا يدرك مغزاه حتى يبادره هو بالشرح والبيان، فحدثت ثلاثة مواقف كان الثالث منها نهاية المطاف وخاتمة الصحبة والاتباع، فكان أولاً خَرْق الخضر للسفينة، فاستنكره موسى واعتبره شيئا إمرًا أي عظيمًا، ثم كان قتل الخضر للغلام، فاستعظمه موسى عليه السلام واعتبره شيئا نكرا، ثم كان أخيرًا إقامة الخضر للجدار الذي في القرية التي أبى أهلها أن يضيفوهما، فكأن موسى أراد من الخضر أن يأخذ أجرًا لقاء ذلك. هذه هي المواقف الثلاثة، التي لم يبق موسى عليه السلام فيها بدون استفهام كما اشترط الخضر، لكن الملفت للانتباه أن الموقف الثالث لم يكن فيها موسى عليه السلام مستنكرًا أو معترضا أو مستفهمًا، كان كلامه كما يبدو اقتراحًا لأخذ أجرة لقاء إقامة الجدار المتهاوي، بل هو ليس اقتراحا صريحا بذلك، هو شيء قريب من ذلك فقط، بأسلوب "لو شئت"، هو تعبير أشبه بالخبر منه بالإنشاء، الخبر الذي يتعامل الناس معه في العادة بالسماع فقط، فلا يتبعه جواب بنعم أو لا، ولا شرح ببيان العلة، ولا استجابة بالفعل أو الترك، ومع كل ذلك يعتبر الخضر العقد لاغيًا، وربما حدث ذلك بناء على عموم حال الموقف، فقد سبق وأن ضعفت المشارطة بمخالفة الشرط مرتين، ففي الثالثة كان أدنى شيء سيؤثر في جملة الاتفاق.

- وإذا أردنا التمييز بين القصتين، فإن فعموم الحال وجدناها في قصة حاطب مستعملة ارتكازا على سياق حياتي عام، أما في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام فوجدناها ترتكز على سياق موقف عام.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين