فقه الأولويات في حياة الفرد والمجتمع

فقه الأولويات من المصطلحات الفقهية العصرية، فعلى الداعية والفقيه أن يهتم به في دعوته وفقهه وفتاويه وفي تبليغه للمجتمع أحكامَ الشريعة، وهي إنما جاءت لتحقيق مصالح الناس في كل زمان ومكان مراعية التغيرات الزمانية والمكانية، وقد تتعارض المصالح أو المفاسد فما هو الأولى بالتقديم، وما هو الأحق بالدفع؟ سأبحث هذا الموضوع في الآتي:

أولًا: تعريف المصطلح، ثانيًا: نشأته، ثالثًا: اختلال ميزانه في حياتنا، رابعًا: أولويات الفرد والمجتمع.

أولًا: مصطلح فقه الأولويات

فقه الأولويات: هو وضع كل شيء في مرتبته بالعدل من أحكام وقيم وأعمال، ثم يقدَّم الأولى فالأولى بناءً على معايير شرعية صحيحة يهدي إليها نور الوحي وسلامة العقل، فلا يقدم غير المهمِّ على المهم، ولا المهم على الأهم، ولا المرجوح على الراجح، بل يقدَّم ما حقه التقديم ويؤخر ما حقه التأخير، ولا يكبَّر الصغير ولا يصغَّر الكبير، بل يوضع كل شيء في موضعه بالقسطاس المستقيم.

يعتمد فقه الأولويات على معرفة الداعية أو الفقيه أحوالَ مجتمعه وحاجاته ليعامله ويعالج قضاياه بناء عليهما، والفقيه ابن مجتمعه فعليه أن يعرفه ليقدم الأهم ثم المهم والأَوْلى فالأولى، فلو أن مدينة احتاجت إلى مَدْرسة فعلى الداعية أو الفقيه أن يتحدث عن أهمية بناء المدارس، وليجعلْها أولوية مقدمة على باقي المواضيع المهمة، ولو أن الحي احتاج إلى إصلاح طرقات فعلى الداعية أن يحث الناس على ضرورة تعبيد الطرقات وإصلاحها، وليجعلْها أولوية مقدمة على ما سواها، ولو أن المجتمع يعاني من داء الغلو والتطرف فعلى الفقيه أو الداعية أن يعالجه ويجعل حديثه عن الوسطية في الإسلام وسماحة الإسلام ويسره، ولو أنه يعاني من الظلم والقهر والاستبداد فليجعلْ حديثه عن الدعوة إلى القضاء على الاستبداد والظلم وإقامة العدل.

ثانيًا: نشأة مصطلح فقه الأولويات

رغم أنَّ مصطلح فقه الأولويات معاصر، وأبرز من تحدث عنه هو الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه المشهور "فقه الأولويات" إلا أن هذا المصطلح ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [التوبة: 19] ينبِّه المؤمنين إلى أن الأعمال تتفاضل عند الله تعالى رغم وجوبها، فالإيمان بالله واليوم الآخر في أعلى الدرجات ولا تساويه سقاية الحجاج وإطعامهم وبناء المسجد الحرام رغم أهميته وعظيم فضله عند الله، والجهاد في سبيل الله والإنفاق على الجهاد أولى من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحجيج.

وورد في السنة أن الأعمال عند الله ليست على درجة واحدة بل ثَمَّة أعمال أولى من أعمال أخرى، وأن شعب الإيمان والواجب ليسا على مرتبة واحدة بل لهما مراتب بعضها أولى من غيرها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضعٌ وسبعون -أو بضع وستون- شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) بيَّن أن شعب الإيمان ليست على مرتبة واحدة رغم أنها كلها من درجاته، فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، ومنها إماطة الأذى، ومنها الحياء والصدق والأمانة والعدل والعفة والصبر وبر الوالدين وتعظيم شعائر الله جميعها، لكنها ليست كلها في مرتبة واحدة.

وصحَّ أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (سُئل: أيُّ العمل أفضل؟ فقال: ((إيمان بالله ورسوله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)). فأجاب السائل بأن أفضل الأعمال الإيمان بالله والرسول ثم الجهاد ثم الحج، ولو أن رجلًا قاتل مع المسلمين ولم يكن مؤمنًا بالله ورسوله لما عُدَّ ذلك جهادًا في سبيل الله، ولو أن رجلًا حج وكان المجتمع يحتاج إلى جهاده لَأَخَلَّ بميزان الأولويات؛ فالأولويات تختلف من إنسان إلى آخر، (جاء رجل إلى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- يستأذنه في الجهاد، فسأله النبي: ((أحيٌّ والداك؟)) قال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ففيهما فجاهد)). هذه إشارة مهمة في فقه الأولويات فقد سأله عن أحواله وأجابه بناء على أولوياته، فبِرُّ والديه مقدم على جهادِ فرضِ الكفاية، أما عندما يكون الجهاد فرضَ عين فالمرأة نفسها لا تحتاج إلى إذن زوجها، ولو جاءه سائل آخر لأجابه إجابة أخرى بناء على الأولويات كما تقدم في حديث رُتب أفضل الأعمال: الإيمان ثم الجهاد ثم الحج، ففيه إشارة إلى أن على الداعية أو الفقيه أن يعرف حال السائل ثم يجيب بناء على أولوياته وحاجاته، فقد تكون الأولوية عند رجل أن يتصدق بأمواله وعند آخر الجهاد في سبيل الله، وكذلك عليه أن يعرف حاجات المجتمع ثم يتحدث بناء على أولوياته، فلو تحدث في حي غني فعليه أن يحدثهم عن فضل الصدقة وتحريم التبذير والإسراف، فهذا أولى من الحديث عن الصبر عند الضراء رغم أنه مهمٌّ، أما لو تحدث في حي فقير فليحدِّثْهم عن الصبر وفضله، فهو أولى من الحديث عن الشكر عند السراء رغم أنَّه مهمٌّ؛ فالأولويات تختلف باختلاف الأشخاص والمناطق والمجتمعات والبلدان.

ثالثًا: اختلال ميزان فقه الأولويات في حياتنا المعاصرة

لو نظرنا في حياتنا المعاصرة لوجدنا اختلالًا كبيرًا في فقه الأولويات على مستوى الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية والتربوية، فمن صور الاختلال في فقه الأولويات -كما ذكر الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه- أنَّ بعضهم يهتمُّ ببناء المساجد في أماكن فيها مساجد ويهمل بناء مؤسسات تربوية تعليمية تعلم الخير وترشد إلى الهدى وتستظل بمظلة شرع الله سبحانه وتعالى، وبعضهم يقيم بين الناس معارك حامية الوطيس من أجل مسائل جزئية أو خلافية ويهمل أصول الإسلام الكبرى وقضاياه الملحة..، فمثلا أكبر همه البحث عن موضع لبس الساعة: في اليد اليمنى أم اليسرى؟! والأكل على المنضدة والجلوس على الكرسي للطعام يدخل في التشبه بالكفار أم لا؟! وغيرها من مسائل أعطيت قدرًا أكبر من حجمها الحقيقي مقارنة بالمسائل المهمة الملحة الأخرى، فضلًا عما يترتب على الانشغال بها من تضييع الجهود والأوقات وإهدار الطاقات وتمزيق الجماعات.

ومنهم من يهتمُّ بالنوافل أكثر من اهتمامه بالفرائض والواجبات كالذين يكثرون من الأذكار والتسابيح والأوراد، ولم يولوا هذا الاهتمام لكثير من الفرائض خصوصًا الاجتماعية مثل بر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجار والرحمة بالضُّعفاء ورعاية اليتامى والمساكين، ويحج نفلًا بينما أولاد بلده في المخيمات لا مأوى لهم ولا طعام، ويهتم بمسائل خلافية جزئية فرعية بينما يتقاتل المسلمون ويتخاصمون، ويهتم بقضايا مهمة في الدين لكن ثَمَّةَ أولوية لقضايا أخرى تُعنَى بواقع المسلمين وإصلاح أحوالهم، ويعتني بالعبادات الفردية كالصلاة والذِّكر ويهمل بعض العبادات الاجتماعية التي يتعدى نفعها كالفقه والإصلاح بين الناس وجهاد الوعي، والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالصبر والمرحمة، والدعوة إلى العدل والشورى ورعاية حقوق الإنسان عامة والضعيف خاصة.

رابعًا: أولويات الفرد والمجتمع

من خلال استقراء الشريعة الإسلامية نجد أن فيها أولويات اهتم الإسلام بها وأعطاها أهمية أكثر من غيرها، ومن أراد التوسع فليرجع إلى كتاب "فقه الأولويات" ومنها:

1- أولوية الكيف على الكم؛ فقدَّمَ الإسلام الاهتمام بالجودة والإتقان على العدد والكمية، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملًا أن يتقنه))[1]، وأولوية الكيف كانت واضحة في غزوة بدر، فرغم قلة عدد المسلمين إلا إنهم انتصروا على المشركين بفضل ثباتهم على الحق وثباتهم على مبادئهم، وفي غزوة حنين كادوا يخسرون المعركة عندما ظنوا أن النصر سيكون بعددهم؛ لذلك على المسلمين أن يهتموا بالنوعية والكيفية أكثر من العدد والكمية، فأن يصلي المسلم ركعتي نفل بخشوع وإتقان خير له من أن يصلي عشرين ركعة خفيفة لا خشوع فيها، وأن يفهم آية قرآنية ويطبقها خير له من أن يحفظ آيات كثيرة بلا فهم.

2- أولوية العلم على العمل؛ فالعلم مقدم، وعلى الإنسان أن يتعلم ثم يبلغ ما علم، وكم من إنسان جاهل أساء إلى الدين من حيث يظن أنه يحسن العمل، ((القضاة ثلاثة: قاض في الجنة وقاضيان في النار، فالذي قضى للناس على جهل هو في النار))، فلا يجوز للداعية أن يسلك سبيل الدعوة حتى يتعلم أحكام الدعوة، ولَأَنْ يتعلم آية واحدةً ويفقهها خيرٌ له من أن يبلِّغ عشر آيات وهو جاهل بهنَّ، وكم من دورة دعوية سريعة خرَّجت دعاة وقضاة جاهلين كانت سببًا في استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وكم من داعية جاهل كان سببا في توجيه الشباب نحو التطرف والغلو بسبب جهله؛ فالخوارج رغم كثرة أعمالهم الصالحة إلا إنهم ضلوا بسبب جهلهم وعدم فهمهم للقرآن ومخالفتهم كبار الصحابة من العلماء والفقهاء والمفسرين.

3- أولوية الفهم على مجرد الحفظ؛ فالفهم مقدم، وفهم القرآن وفقهه وتطبيقه وتفسير آياته وفهم معانيها ومقاصدها وتدبر القرآن هو المطلوب، وخاصة أن الوسائل الحديثة للحفظ كثيرة، نعم إن الحفظ مطلوب ويثاب فاعله ويشفع له يوم القيامة، إلا إن الحفظ المطلوب هو الحفظ مع الفهم، أما الحفظ بلا فهم فليس مطلوبًا؛ فعلى المؤسسات القرآنية أن تهتم بتعليم الأجيال فهم القرآن ومعانيه ومقاصده وكيفية تطبيقه في حياتهم مع حفظه، فالأمة لا تحتاج إلى حفظة بمقدار حاجتها إلى علماء وفقهاء ودعاة.

4- أولوية الدراسة والتخطيط؛ فالعمل المنظم المخطط هو المطلوب، أما العمل العشوائي غير المنظم فلا يجوز، وهذا كان حال الرسول -صلى الله عليه وسلم- في سيرته، بل إن الدعوة الإسلامية كانت قائمة على التخطيط والتنظيم، وتقسيمها إلى مكية ومدنية ووجود خصائص وأحكام تناسب كل مرحلة دليل على تنظيم وتخطيط وإتقان، فعلى القيادات قبل أن يقودوا أمرًا أو يبدؤوا معركة أن يكون ذلك عن تخطيط وتنظيم وشورى ودراسة لمكان القوة والضعف.

5- أولوية العمل الدائم على المنقطع؛ يقول صلى الله عليه وسلم: ((قليل دائم خير من كثير منقطع))، فأَنْ يصوم المسلم الاثنين والخميس دائمًا خيرٌ له من أن يصوم شهرًا ثم يعجز عن الصيام، وأن يقوم في كل ليلة ركعتين خير له من أن يقوم ليلة واحدة ثم ينقطع عن القيام، فأحب الأعمال إلى الله أدومُها وإن قلّ.

6- أولوية العمل المتعدي النفع على القاصر؛ فالعمل الذي ينتفع منه المسلمون أولى من العمل القاصر النفع على الفرد، من ذلك أن إصلاح ذات البين أفضل من الصيام والصلاة ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ؟)) قَالُوا: بَلَى، قَالَ: ((إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، قَالَ: وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ)) جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإصلاح بين المسلمين في مرتبة متقدمة على الصلاة والصيام والصدقة لأن الإصلاح ينتفع به جميع المسلمين، وأما النفل فينتفع به فاعله وحده، وروي مرفوعًا: (رجل عالم خير من ألف رجل عابد) لأن العالم ينفع بعلمه خلق كثير أما العابد فينتفع بعبادته وحده، فعلى المسلمين إعطاء الأولوية للأعمال التي فيها نفع عام وخدمة لعباد المسلمين على العبادات الفردية الخاصة.

7- أولوية العمل في زمن الفتن؛ فالمجتمع يحتاج إلى الدعاة والفقهاء والعلماء في زمن الفتن والاضطرابات السياسية ليبينوا لهم الحق من الباطل والخطأ من الصحيح، إن العمل في زمن الفتن هو الجهاد الحقيقي، أما الاعتزال الوارد في السنة فالمقصود منه عند اشتباه الحق بين الطرفين وعدم القدرة على تمييز الحق من الباطل، أما عند تمييز الحق من الباطل فالمؤمن مأمور بالعمل والوقوف إلى جانب الحق حتى ينتصر، وهذا هو الجهاد الأكبر، فإن لم يستطع أن ينصر الحق وجب عليه أن ينكر المنكر بقلبه.

8- أولوية الواجبات على السنن، وتقديم الواجبات الاجتماعية على النوافل، ومن الواجبات الاجتماعية (نصرة المظلوم- صلة الرحم- الإصلاح بين الناس- قضاء حوائج الناس- التعليم- إغاثة الملهوف- عيادة المرضى- مواساة المصابين).

9- أولوية فرض العين على فرض الكفاية.

10- أولوية حقوق الجماعة على حقوق الأفراد؛ فالمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، ومصلحة المجتمع مقدمة على مصلحة الأفراد عند التعارض لكن بشرط ألا تهدر المصلحة الخاصة.

هذه هي أهم الأولويات التي يجب على المؤسسات الدينية والدعوية أن تعمل بها في وقتٍ تتزاحم فيه الفروض والواجبات، وعلى الدعاة والفقهاء أن يفقهوها في دعوتهم، فتلك هي الحكمة المطلوبة منهم ليحققوا الإصلاح في مجتمعاتهم ويكتبَ لهم القبول في الأرض وفي السماء.

[1] رواه البيهقي في شعب الإيمان، (4931).

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين