فقه إدارة الخلاف المذهبي

 

إن الخلاف المذهبي في الإسلام أمر واقع قديم، وهو في ميزان الشرع محل تفصيل؛ إذ قد يكون مقبولاً حينا ومرفوضاً حينا آخر. 

 

مقبول لا لأجل الترحيب بالخلاف ذاته؛ لكن لما أنه أمر لا مندوحة عنه ولا منجاة منه، لما خلق الله البشر عليه من اختلاف العقول، ولما قضى في طبيعة نصوص شريعته، حيث اختار سبحانه طروق الاحتمال في فهم بعض نصوصها وثبوتها كذلك، وهو ما يسميه الأصوليون: ظنية الدلالة وظنية الثبوت. 

 

ومقبول كذلك؛ لما في بعض الخلاف من السعة على العباد، وترك حيّزٍ لترجيح بعض الوجوه في مسائل الخلاف عند تغير الأحوال ونزول النوازل وحدوث المستجدات.

 

وإذا كان الأمر كذلك فإن قدرا من الخلاف حتما سيكون طبيعيا مقبولا. 

 

أما الخلاف المرفوض المذموم فهو أحد صورتين: 

الأولى: 

خلاف خارج عن محتمَلات النصوص الشرعية وروح الشريعة ومقاصدها، لا يتكئ على فهم للنصوص وإنما على هوى متَّبع وتحريف متعمد.

أو اتُّبع في فهم النصوص والوصول إلى النتائج مسالك فاسدة عرجاء أدّت إلى فساد مخرجات البحث الشرعي. 

فهذا وذاك طرفا الصورة الأولى من صور الخلاف المرفوض المذموم. 

ومثال الأول: 

خلاف الفرق الباطنية، التي انتصرت لأهواء مبتدعيها. 

فالرافضة الذين كفروا جمهور الصحب ونالوا من أمهات المؤمنين، واعتنقوا القول بتحريف  كلام الله؛ لا يمكن أن يكون خلافهم مقبولا، إذ لم يُعتمد فيه على مصادر الشريعة ونصوصها، وإنما اتُّبع فيه الهوى وعُبدت الرغبات.

ومثال الثاني: 

خلاف الخوارج؛ الذين انتهجوا مسلكا فاسدا في فهم النصوص، فأنتج المسلكُ نتائجَ باطلة؛ استباحوا بها الدماء المعصومة، وخرجوا على جماعة المسلمين وفرقوا صفهم. 

 

والحق أن كلتا الطريقتين المذكورتين تلتبس إحداهما بالأخرى، فلا يخلو متبع الهوى من تطويع النصوص لخدمة بدعته، ولا فاسد النظر من هوىً يحدو مسلكه ونتائجه. 

أما الصورة الثانية للخلاف المرفوض المذموم: فما كان أصلا خلافا سائغا مقبولا بذاته ونتائجه، إلا أن المختلفين قد ضلوا في عدم اتساع صدورهم لخلاف إخوانهم، فبنوا معاقد المفاصلة ورفعوا رايات الولاء والبراء على مسائل كان يسعهم قبول الاجتهادات فيها، فعاد هذا النوع بالفساد الحاصل في أنواع الصورة الأولى المذمومة المرفوضة. 

 

وقد كان حقهم اتساع الصدور وعذر الإخوان فيما أداهم اجتهادهم إليه، فإنهم جميعا إنما أرادوا بلوغ الحق لم يألوا في ذلك جهدا، فإن أصابوا فالله يأجرهم أجرين؛ أجر بذل الجهد وأجر إصابة الحق، وإن أخطأوا فالله يأجرهم أجرا واحدا؛ أجر بذل الجهد. 

فما داموا بين الأجر والأجرين فلماذا يستبدلون ذلك بالوزر والوزرين؟؟ وقد كان يكفيهم ما وسّع الله عليهم؟؟!

 

ثم إن الأمر يزداد قبحا إذا ما كان نزاع هؤلاء الأفاضل في وقت قد توجّب عليهم فيه الائتلاف لا الاختلاف، والتجمع لا التمزق، في ظل حرب شعواء تُسعَّر بدماء الأطفال والنساء، وتُشَنُّ مستهدفة سحق بيضة التوحيد، واجتثاث جذور الإيمان والتجديد!! 

 

كيف بهم إذا كانت عقبان الموت وضباع الشر تتربص بجثثهم لتأكلها رِمَما؛ وهم مشغولون بتضليل بعضهم والبراءة فيما بينهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله! 

 

أمَا إنه قد آن الأوان أن يفهم طلبة العلم أن ثمة أولويات لإدارة خلافاتهم، وأن هذا وحده بجودة التطبيق ورُقيِّ التنزيل فقه عظيم يوفق إليه ذوو البصائر، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين