فطوبى للغرباء العاملين


إنّ نظرةً عميقةً، ودراسةً تمحيصيةً، وتحليلًا سُنَنِيًّا إزاء ما يجري في ساحة الأحداث المتسارعة، والتي تحمل بين طيّاتِها مِحَنًا جِسَامًا، وتُخفي في ثناياها خططًا ماكرةً، إذْ أنَّ أعداءَ المسلمين الفجرة يبذلون قصارى جهودهم متآصرين فيما بينهم، مُتَّحدين على هدفٍ واحدٍ، ألا وهو تفتيتُ هذه الأمة مِزَقًا، وتشظيَتُها شَذَرَ مَذَر، ثم الإجهازُ على ما بقي فيها من عناصر القوة ومقوّمات المنَعة، وقد استغَلُّوا في العبور إلى ذلك ثقوبًا حضاريةً في جسد المجتمع المسلم، فَوَسَّعُوهَا ونَحنُ غافلون، أجل؛ ثقوبٌ اتَّسَعَ انفتاقُهَا، وانساحَ تمزُّقُها، حتى صَعُبَ على الراقعين رَتقُ ما انخَرَق، ورَفْوُ ما انفَتَق.

لكن هذا الواقع يَشي بآمالٍ طموحةٍ، من خلال هذه الآلام المريرة، ألا وهو التمحيص للمؤمنين الثّابتين، والكشفُ الواضح للمنافقين الخانعين، وهذا مِن سُنّةِ الله تعالى الماضية، التي تُسَدِّدُ الخطى، وتنير الدرب، وقد ذكر الله تعالى في قرآنه الكريم ما يُوضِحُ ذلك، وما يُبَيِّنُ ذلك، (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 141]. وقوله: (مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى? مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى? يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران: 179]، وقوله: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) [سورة محمد].

وهانحن أولاء أمام هذه المواجهة الشرسة، والتوغُّل المتوحِّش، فما نحن فاعلون ؟!

إن التأمُّل الرَّصين، والوعي السديد، والنظر الرشيد، والدراسة المتأنية، والتخطيط الاستراتيجي المحكَم، هو السبيل الوحيد للخروج من هذا النفق المظلِم، وذلكم عبر أبناء "الغربة" الأفذاذ، الذين يتَّصِفُون بالعبقرية في الأداء، والمهارة في الحراك، والإبداع في اختراع الوسائل، أولئك هم الذين عناهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء)، قيل: يا رسول الله، مَن الغرباء؟ قال: (الذين يُصْلِحون إذا فسد الناس) [رواه مسلم في صحيحه].

أجل؛ فسيّد الغرباء هو المصطفى الحبيب صلى الله عليه وسلم، مَثَّلَ غُربَتَهُ قبلَ رسالته فكان الصادق الأمين، وبعد رسالته فكان صاحب الخلق العظيم، والرحمة للعالمين، كذلكم يوسُف عليه السلام، كان الغريب في بيئة الأهواء، ومناخ الانحرافات، وعصر الطبقيّة، وفُشُوِّ الظلم، فأثار بِغُربَتِهِ إنقاذَ المجتمع، (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف: 55]، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه تميَّزَ بغُربَتِه، مِن خلال عُمق نظره، ودِقَّةِ تحليله، فهو الذي قال: [إن قال صاحبي ذلك فقد صدق]، وعمَرُ الفاروق رضي الله عنه، الغريب الفَذّ، الذي حاز على وصف النبي صلى الله عليه وسلم له بالعبقرية، حيث قال: (لم أر عبقريا يفري فريه) [رواه الشيخان]، ومعناه: (لم أرَ سيّدًا يعمَلُ عَمَلَه).
إذن؛ فالغربة ليست النأيَ بالنفس عن حَملِ الهَمّ، ولا اليأس في المعركة والفرار من الزحف، إنما هي عملٌ منهجي دؤوبٌ، وحركةٌ نوعيةٌ وواعية، من خلال عبقرية فذة، وخبرة مُحكمةً.

فيا رجال أمتنا، ويا شباب مرحلتنا، ويا حرائر أزمتنا، أنتم المعنيُّون في هذه الغربة، لتكونوا غرباءَها المتميزين، وعباقرتها النادرين، وأفذاذَها الفاعلين، وما النصرُ عنّا ببعيد، وما النصر إلا من عند الله.
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين