فضيلة المحبة في الله

 

عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلي الله عليه وسلم: (أن رجلاً زارَ أخاً له‏ في قرية أخري، فأرصدَ الله تعالي على مدرجته ملكاً، فلما أتي عليه قال:  أين تُريد؟ قال:  أريد أخاً لي في هذه القرية. قال:  هل لك عليه من نعمة تَربُّها عليه؟ قال:  لا،  غير أني أحببته في الله تعالي.  قال:  فأني رسول الله إليك بأن الله قد أحبَّك كما أحببته‏ فيه). رواه مسلم.

 

إنّ من آيات الله الحسان، الهادية إلي الخير والبر والإحسان، في هذا الدين الذي أرسل الله به سيدنا محمداً صلي الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وإنقاذاً للهالكين،  وتفريجاً عن المكروبين، وإسعاداً للبائسين - هذه المبادئ الاجتماعية التي تتعرفها العقول، وتتعشقها القلوب، ويشهد بعظيم جدواها وثمراتها كل من لا ينكر الظاهر المشاهد،  ولا يجحد الواقع الملموس، وهي تلك المبادئ التي لا يغني في أخذ الناس بها، وتقدير مشاعرهم علي مقاديرها، وصبغ قلوبهم بصبغتها أية قوَّة مادِّية قاهرة، بل ولا حكمة عقلية صائبة في هذا الوجود.

فإنَّ القوي المادية -بالغة ما بلغت- لا تستطيع أن تقضي إلا في‏ ظاهر من أمر هذه الحياة الدنيا، والأحكام العقيلة مهما أحكمت وسددت لا تملك من‏ أمر المثوبات الباقية شيئا، وليس لهاتين القوّتين من هيمنة علي الأسرار والبواطن، ولا تأثير علي العواطف والمشاعر كالذي للدين في حسن تلطفه إلي القلوب، وتهدّيه إلي‏ نواحي الخير من النفوس، وعرضه عليها من لدن ربها البر الرحيم، وخالقها الوهاب الكريم، الذي خلقها، وفطرها، وأعدَّ لها- علي مقتضي ما أودعه من الأسرار فيها- ما فيه قرَّة العيون، وشفاء الصدور، مما لا يملكه أحد إلا الله تعالى، ولا ينبغي لأحد سواه.  

 

وهل يستطيع أحد غير الله جل وعلا ?ُبَشِّر أحداً بمثل هذه البشارة لهذا الذي أحبَّ أخاً له‏ في الله بأنه قد حظي بمثل هذه المحبة من الله التي ما جعلها لعبد إلا وقد قضي له بالرفعة والكرامة، والشرف والعزة، واللطف والعناية، والنصرة والولاية، والتوفيق‏ والهداية، والروح والريحان، والجود والإحسان، وكل ما يقتضيه وصف المحبة في هذا المقام العظيم الذي يعلو بمعناها علي هذا الذي يتنزَّه الله عنه من حقيقتها البشرية التي هي‏ ميل القلوب وانجذابها نحو المحبوب.

 

علي أنَّ القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فيصل من يشاء بمن‏ يشاء، ويولف بين من يشاء، ويفرِّق بين من يشاء، علي مقتضي من حكمته البالغة، وعزَّته‏ القاهرة، وعلمه المحيط، وفي الحديث:  «الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» فكيف يستطيع أحد غيره أن يؤلف بين القلوب المتنافرة، أو يوحد بين‏ الأهواء المتغايرة، حتى لا يشقي إنسان بإنسان، ولا يتوقع منه غوائل البغي والعدوان؟..

فمن هذه المبادئ التي لا تملك قوة ولا حكمة بعد الدين أن تغرس في النفوس غراسها،  وتشرب في القلوب روحها، هذا المبدأ الكريم الذي تتحلي به قلوب أهل المحبة في الله من‏ المؤمنين. وقد بين الحديث بطريق الأولي أنها محبة خالصة من الشوائب والأغراض،  مُنزَّهة عن الأطماع والأهواء. إذ برَّأها من كل شي‏ء غير ابتغاء وجه الله، حتى من‏ انتظار الجزاء علي ما سلف من النعماء، وهي الغاية التي تتقاصر دونها مودَّة الأودَّاء، ووفاء الأوفياء.

 

وقد عظَّم الإسلام من أمر هذه الخصلة أيما تعظيم، ودعا إليها بكل أسلوب حكيم، ورغَّب فيها بكل ترغيب كريم.  فالمؤمنون فيه ليسوا إلا أخوة متعاطفين: [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ] {الحجرات: 10}  «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا»«مثل المؤمنين‏ في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد».

وهذه الأخوة من نعم الله التي يجب‏ أن يذكروها ليشكروها: [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا] {آل عمران: 103} ولن يجد أحد حلاوة الإيمان وبشاشته، وطيبه في القلوب ولذته، وجماله ووسامته، حتى يكون فيه ثلاث خصال هي إحداها كما في الحديث:  «ثلاث‏ من كن فيه وجد حلاوة الإيمان:  أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب‏ المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الفكر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف‏ في النار».

بل إن انتفاء هذه الخصلة وحدها ليؤذن بانتفاء الإيمان، ففي الحديث: «والذي‏ نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا» بل إنَّ لأهل هذه المحبة- من القرب والزلفى والسمو عند الله إلي الدرجات العلا، بعد أن يكونوا من الذين يظلمهم‏ الله بظله يوم لا ظل إلا ظله-ما يصوره لك هذا الحديث الذي رواه الترمذي بسنده إلي‏ معاذ بن جبل رضي الله عنه وقال فيه: حديث حسن صحيح. قال: سمعت رسول الله‏ صلي الله عليه وسلم يقول:  «قال الله عز وجل: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم‏ النبيون والشهداء»، وحسبهم أن يرسل الله إلي رجل منهم ملكاً كريماً ليبشره بأنه يحبه،  وحسبنا أن يخبرنا بذلك نبينا لنتخذ من المتحابين في الله قدوة ومثلاً، ولنعلم أن الله أحق‏ بكل جميل وأولي، وأن له من كل وصف حميد المثل الأعلي.

أما بعد:

فإننا نريد أن نتبيَّن سرَّ هذا الفضل الظاهر لهذه الخصلة الحميدة من خصال‏ الإسلام، ولم كانت بهذه المنزلة من الإيمان، وما هو وجه ما أسلفنا من أنَّها من آيات‏ الله الاجتماعية الحسان؟. وأول ما ينبغي أن يعلم من ذلك أن هذه المحبة إنما هي فرع عن محبة العبد لله. ولهذا ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما من حديث رواه أحمد رحمه الله أن‏ النبي صلي الله عليه وسلم قال:  «والذي نفس محمد بيده ما تواد اثنان ففرق بينهما إلا بذنب‏ يحدثه أحدهما».

ومن هنا ?ُعلم أن هذه المحبة ليست بالأمر الهيِّن كغيرها من ضروب‏ المودات، وصنوف المحبات التي لا ترجع إلي أصول ثابتة في القلوب، بل إلي أحوال خارجية طارئة من الاجتماع علي الأغراض والشهوات والالتقاء في الأهواء والنزعات مما هو مظنة التضارب والاختلاف، وعرضة للتغير والزوال.

ولهذا قيل:  إن المحبة بين الأخيار سريع اتصالها، بطييء انقطاعها، وأن مثل ذلك كمثل كوب الذهب الذي هو بطيء الانكسار هين الإصلاح، وأن المودة بين الأشرار سريع انقطاعها، بطيء اتصالها:  كالكوز من‏ الفخار يكسره أدني عبث ثم لا وصل له أبدا.

وقد قيل في ذلك:

من لم تكن في الله خلته              ‏ فخليله منه علي خطر

ومن وجوه أنها ليست بالأمر الهيِّن كغيرها من المودات مع كونها سريعة الاتصال‏ بين الأخيار أن هذا الوصف من الخير تتلاءم به القلوب وتأتلف النفوس لا يكون حتى تتطهر القلوب مما يلابسها ملابسة الأرواح للأجساد، ويجري فيها مجري الماء في العود،  ويتردد في خطراتها تردد الأنفاس في الصدور: من الأثرة وحب الذات، والتعلق‏ بالمطامع واللذات، واتباع الأغراض والشهوات، والطموح إلي العلو علي الخلق،  والاستكبار في الأرض بغير الحق. وكما قيل:

كل امرئ في نفسه                      ‏ أعلي وأشرف من قرينه

وهل التطهر من هذه الخصال، والتحلي بأضدادها، إلا بمثابة هدم النفوس ثم بنيانها،  وقتلها ثم إحيائها؟ وهل ذلك إلا صورة من صور الجهاد الأكبر الذي يصل فيه المؤمن‏ ليله بنهاره في محاربة غرائزه وخصاله، ومنازلة مآربه وأوطاره، حتى يخرج من هذه الحرب‏ الصارمة الحاسمة، حرب الموت أو الحياة، والهلاك أو النجاة، رجلا صادق الإخاء، كريم‏ الوفاء، نقي الصفاء، يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكر له ما يكره لها، ولا يحب إلا لله،  ولا يبغض إلا لله، فلا يغيره خلاف في الرأي إن وقع، ولا تضارب في المصالح إن كان.  

وعن علي كرَّم الله وجهه «لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا ما أبغضني» ولهذا حدّت‏ هذه المحبة بأنها «مالا تزيد بالبر ولا تنقص بالجفاء» أي:  أنها أعلي من أن تتطاول إليها أعراض الحياة. وسمع المأمون من بعض الشعراء قوله:

 

وإني لمحتاج إلي ظل صاحب             ‏ يروق ويصفو إن كدرت عليه

فقال: ائتني بهذا الصاحب، وخذ مني الخلافة.  علي أن لهذه الأخوة من الخصال‏ في الدين ما يجعلها كغيرها من الأصول العظام، لا تستطاع لغير أولي العزم من المؤمنين‏ الصادقين، والعاملين المخلصين، والموفقين المسددين. فعن ابن عمر رضي الله عنهما من‏ حديث سبق بعضه أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يقول:  «للمرء المسلم علي أخيه من المعروف‏ ست:  يشمته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، وينصحه إذا غاب ويشهده، ويسلم‏ عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، ويتبعه إذا مات، وينهى عن هجرة المسلم أخاه فوق‏ ثلاث».

وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلي الله عليه‏ وسلم قال:  «المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن:  يكف عليه ضيعته، ويحوطه‏ من ورائه»، وفي رواية أخري لغيره: «المؤمن مرآة أخيه المؤمن يري فيه حسنه وقبحه» وهي كالتفسير لما قبلها.  

وقد كان أهل النفوس الكبيرة من أسلافنا يرون أن ذلك هو حق الإخاء، وواجب الوفاء، لا ما يتعلق به صغار النفوس-وما أكثرهم-من حب‏ الإطراء والثناء، فعن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول: رحم الله امرأ أهدي إليَّ عيوبي.  ومن كلام‏ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لميمون بن مهران رحمه الله تعالى:  قل لي في وجهي ما أكره،  فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره.

 

 ولو أن المسلمين أُشربوا في قلوبهم هذه المحبة كما أشربها أسلافهم من المهاجرين والأنصار حتى قدِّمت فيهم أخوة الإيمان علي أخوة الأنساب في كل شي‏ء حتى في المواريث إلي أن‏ استقرَّت بهم الدار، واختلفت الحال، لاستطاعوا أن يبنوا مجتمعاً لا يجد فيه الضعيف ذلة، ولا الفقير قلة، ولا المنقطع وحشة، ولا الغريب غربة، ثم لأوصدوا هذه الأبواب التي‏ يظنُّ الجاهلون أنَّ في فتحها المخرج من مَشَاكلنا الاجتماع?َّة، ثم لمحوا من بينهم هذه الحدود التي أقامها ليقطع بها ذات بينهم المستعمرون، ويفرقهم بها الغاصبون، حتى يكونوا ضعفاء مُستذلين، أو أعداء مُتنافرين، ولاستطاعوا أن يكونوا كما شرع الله أمَّة واحدة لا تفرقها المذاهب والعصبيات، ولا تخالف بين قلوبها الاختلافات والخصومات. فإن ما بينهم - علي وضوح الكتاب وبيان السنة- لعجب من العجب:  عجب كما يقول علي كرم الله وجهه‏ يميت القلب، ويشغل الفهم، ويكثر الأحزان.

 

ولنختم هذه الكلمات بحديث كريم في مثوبة المتحابين في الله، ومن يعطون هذه المحبة حقها العظيم:

فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم‏ يقول:  «قال الله تعالي: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في،  والمتباذلين في»، وبقوله تعالي في صفة الأنصار الذين ضربوا لهذه الأمة وللأمم جميعاً أروع الأمثال في المحبة والإيثار: [وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {الحشر: 9} .

 

وصلى الله على سيدنا  محمد وآله وصحبه وسلم.

 

المصدر:  مجلة الأزهر المجلد السابع والعشرون رجب 1375هـ  العدد السابع.  

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين