فضيلة الإخلاص-2-

 

الإخلاص في العبادة(1):

أمرَ الشارعُ بالعبادة، وشرطَ لقبولها النيَّة الطيِّبة، وهي الإرادة المتوجِّهة نحو الفعل ابتغاءَ رضا الله تعالى وامتثال حكمه، فإذا قال الشارع: (افعل كذا) فمعناه افعله سواء وافق ما تشتهيه نفسك أو خالفه، فمن قام بعمل على نحو ما أمر الله تعالى، لا يقصد منه إلا ابتغاء رضا الخالق سبحانه وامتثال حكمه، طارحاً النظر إلى ما وراء ذلك من الحظوظ، فقد أتى بشرط قبوله على أكمل وجه، وهو النية الطيِّبة.

 فإن أتى بالعمل المأمور به وهو لا يَقصد امتثال أمر الله سبحانه، وإنما يقصد الوصول إلى حَظٍّ في الدنيا، كمن يفعل طاعةً ليراه الناس، فينال عندهم حظوة، ويذكروه في مجالسهم، أو يصلوه بشيء من أموالهم كان عمله خاسراً، وذلك هو الرياء الذي يحرم صاحبَه الثواب، بل يُلقي به في عذاب الهُون.

وعلامة انصراف إرادته إلى الحظِّ الدنيوي دون امتثال أمر الله تعالى، شعوره بأنَّه لو عرف أنَّ رؤية الناس لعمله لا تفيده شيئاً لنفض يده من العمل وتركه جُملة.

وبقي حال هو بين ابتغاء رضا الله تعالى مجرَّداً من كل حَظٍّ، وابتغاءِ الحظ عارياً من قصد الامتثال، وهو أن يقصد امتثال حكم الله سبحانه وابتغاء رضوانه ولكنه يُلاحظ بعد هذا القصد حظاً في الدنيا كالعِزَّة والحياة الطيِّبة.. 

وعلامة جعله امتثال أمر الله تعالى هو القصد الأصلي، إحساسه بأنَّه عازم على القيام بالعمل كما أمر الله تعالى، وإن تيقَّن أنَّه لا ينالُ الحظَّ الذي لاحظه بعد قصد الامتثال، وهذا الحال هو الذي يحتمل أن تتناوله أنظار أهل العلم بالبحث والتفصيل.

من ينظر إلى بعض الآيات والأحاديث الواردة في الحثِّ على الإخلاص، قد يَرى أنَّ العمل الصالح هو ما قُصد به امتثال أمر الله تعالى وابتغاء رضوانه قصداً لا يقارنه قصد آخر، ومن هذه الآيات قوله تعالى: [وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] {البيِّنة:5}، ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبها أو امرأةٍ يَنكحها فهجرتُه إلى ما هاجر إليه).

وقد جرى على نحو هذا المذهب حُجَّة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى، وجعل قصد الحظوظ الدنيويَّة مُنافياً للإخلاص متى كان لهذا القصد أثر في تخفيف العمل، وقال: (إنما الإخلاص تخليص العمل عن هذه الشوائب كلِّها قليلِها وكثيرِها، حتى يجرد فيه قصد التقرُّب، فلا يكون في باعث سواه) (2)

وفي الشريعة آياتٌ وأحاديث، وردت في ربط حظوظ دنيوية بالتقوى، أو ببعض الأعمال الصالحة، وهذا الربط قد يكون على وجه أنه سُنَّة جارية كقوله تعالى: [وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ] {الطَّلاق:2-3}. فدلَّ على أنَّ التقوى يتبعها اليسر، ولا يضيق على صاحبها أمر الرزق، وعلى هذا الوجه ورد قولُه تعالى: [وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] {المنافقون:8}. فالآية تدل على أنَّ الإيمان الصادق وهو المصحوب بالطاعة، يأتي بالعِزَّة ويحمي صاحبَه من مواقف الذلَّة.

وقد يكون ربط الحظ الدنيوي بالعمل الصالح على وجه أن هذا الحظ حق شرعي لمن قام بهذا العمل الصالح، كالغنيمة جُعلت حقاً للمجاهدين، وسَلَب القتيل جُعل حقاً للقاتل.

والظاهر أنَّ القصد من الإخبار بأنَّ التقي يَلْقى يُسْراً، ويعيش في عِزَّة تأكيد الحثِّ على التمسك بالتقوى، كما أنَّ القصد من جعل الغنائم حقاً للمجاهدين، وجعل سلب القتيل حقاً للقاتل تأكيد الحثِّ على واجب الجهاد.

وقد يخرج الناظر من مثل هذه الأخبار والأحكام إلى أنَّ مُلاحظة العامل ما وعد الله تعالى به المتقين من طمأنينة النفس وصيانتها من مواقف المهانة، أو ملاحظة ما جعله حقاً للمجاهدين من الغنائم أو سلب القتيل لا يُحبط العمل الذي يَقوم به تحت سلطان أمر الله سبحانه وابتغاء رضوانه.

 ومن جرى على هذا المذهب القاضي أبو بكر بن العربي، فلم يرَ مُلاحظة الحظ الدنيوي من وراء القصد لامتثال أمر الله تعالى والفوز برضاه ناقضاً لشرط الإخلاص، واعتمد على هذا الشهاب القرافي في الفرق الثاني والعشرين والمائة من كتاب (الفروق).

جاء أبو إسحاق الشاطبي، وعقد في كتاب (الموافقات) مُقَايسة بين المذهبين، وصار إلى ترجيح ما ذهب إليه ابن العربي والقرافي، وساق له شواهد، وضرب له أمثلة، وكان ملخص بحثه أنَّ حظوظ النفوس، لا يمنع اجتماعها مع العبادة إلا ما كان مُنافياً لها كالرياء، وأما ما لا ينافي العبادة فالقصد له بعد قصد امتثال أمر الله سبحانه لا يقدح في صحتها، كأن يقصد الهجرة إلى الله ورسوله، ثم يَذكر أنَّ في الهجرة خلاص من ضرر النفس والمال، فتزداد مَشقَّة الهجرة على نفسه خِفَّة. 

وقد عرفت أنَّ إفراد قصد العبادة من قصد الأمور الدنيوية أفضل وأسمى.

فعلى الإنسان أن يجاهد نفسه لتقصد في العبادات امتثال أمر الله تعالى مجرَّداً من القصد إلى أيِّ حظٍّ دنيوي، فإن خطر على باله بعد قصد الامتثال حظ دنيوي لا يُنافي العبادة فأحسَّ في نفسه زيادة ارتياح للعمل، فليمضِ في سبيله ولا يعتقد أنَّ عمله سيذهب ضائعاً.

 ويحق للمرشد إذ يعظُ الجمهور أن يذكِّرهم بفوائد العمل الصالح في الدنيا، بعد أن يُذَكِّرهم بما ينالونه من سعادة في الأخرى، فقد يكون لذلك أثر في تقوية الهِمَم الضعيفة، وإقبال النفوس على الطاعات بسهولة، وربما انتقلت هذه النفوس من طاعة تُلاحظ فيها بعد الامتثال حظاً دنيوياً إلى مرتبة أسمى هي أن لا قصد من العبادة إلا ابتغاء رضا الله سبحانه.

 وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة الهداية الإسلامية، المجلد الثامن، شوال 1354 - الجزء 4).

 

------

(1)زيادة إيضاح وتفصيل لما أشرنا إليه في المقال السابق من أنَّ ملاحظة الحظوظ الدنيوية في الأعمال الصالحة لا تبطلها.

(2)الموافقات للشاطبي في بيان قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين