فضل الأخوة والألفة وشروط الصحبة

الشيخ : إبراهيم الجبالي

قال تعالى :[إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] {الحجرات:10} . وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ، ونافخ الكير ، فحاملُ المسك إمَّا أن يُحذيك وإمَّا أن تبتاع منه ، وإمَّا أن تجد منه ريحاً طيبِّةً ، ونافخ الكير إمَّا أن يُحرق ثيابك ، وإما أن تجد ريحاً خبيثةً) رواه مسلم.
المسك : طيب معروف وهو من أطيب الطيب . والكير : المنفاخ الذي تضرم به النار ، ومعنى يحذيك: يعطيك ، وتبتاع : أي : تشتري.
المؤمن إلف مألوف ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف ، والألفة : عقد روحي بين الناس ، يؤلف بين قلوبهم ، ويوفق بين مصالحهم ، ويكمل توادهم ، معين على مرافق الحياة ، مساعد على الصدق في تبادل المنافع ، يُشعر كلاً من المتآلفين بأن مصلحته مرتبطة بمصلحة أخيه ، فيسعى فيها ويساعد عليها كما يسعى في مصلحة نفسه. وأبلغ ما يشرح فائدتها تشبيهها بالتساند في البنيان يشد بعضه بعضاً ، كما جاء في الحديث الذي يشرح حال المؤمن مع المؤمن ، أو بأعضاء الجسد الواحد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، كما جاء في الحديث الآخر ، وكلاهما يشرح الأخوَّة التي دلَّت عليها الآية الكريمة:[إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] {الحجرات:10}.
فبهذا كانت الأ×وة والألفة نعمة من الله أنعم بها على عباده ، كما جاء في قوله تعالى :[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا] {آل عمران:103} . ولقد أشار إلى عظيم المنة فيها في آية أخرى ، بإسنادها إلى ذاته ، وتجريدها عن مدخلية غيره ، في قوله عز من قائل : [هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] {الأنفال:63}  . وكل شؤون الحياة تعطي حكماً بيِّناً لا خفاء فيه : أن المرء بحاجة إلى إخوانه ومعاونيه ، لا يكاد يستغني في أمر عن الاستعانة بهم . وقد قالوا : المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه.
وأكبر م ظاهر الأخوة والألفة النفس للنفس ، وميل الطبع إلى الطبع حتى تمتزج الغرائز ، وما أرقها وأسرعها إلى الامتزاج ، فترى الإلفين يسرى إلى كل منهما من طبع صاحبه حتى يصيرا كالطبع الواحد ، فينشأ منهما مزاج وسط جامع لخواصهما جميعاً ، وقد تتمكن صفة وخاصية في أحدهما فتسري بكل خصائصها إلى الآخر بدون أن تأخذ منه شيئاً ، والتجارب شاهد عدل.
وإنه لما يقوى تأثير أحد الطبعين في الآخر وتغلبه عليه ، أن يساعده ميل النفوس إلى الهوى ، والهوى يقظان لا يغفل ، بينما داعي العقل والهدى تدركه السِّنة والنوم ، و الغفلة ، فكان الخوف من فساد الطبع السليم أشد بالاختلاط بالطبع السقيم من الأمل في صلاح المريض بمخالطة السليم ، وقد قالوا : يمرض السليم بعدوى المرض ولا يبرأ المريض بعدوى السلامة ، اللهم إلا إذا أسعده الحظ ، وخالط طبيباً معالجاً ، وناصحاً أميناً وهادياً حكيماً ، فقد يرجى له السلامة على يديه ، والانتفاع بنصحه وتذكيره ، والذكرى تنفع المؤمنين . وإن تأثير المريض في السليم من باب الانحدار والهدم والعدوى ، وتأثير السليم في المريض من باب الارتقاء والبناء و العلاج ، والفرق بينهما مما لا يكاد يجهله أحد.
هذا الذي نذكره هو أكثر ما يجري بين الناس ، لأن الغالب في الطباع المرونة والاستعداد للانتقال تبعاً للتزيين والاستحسان ، وقد يكون من النفوس ما استقر على حالة من خير أو شر ، فيتعاصى عن التغير والتبدل، ولذلك قال بعضهم : (الناس أربعة : ثنان قد تبين أمرهما وكفيت تجربتهما ، واثنان أنت منهما على تجربة ، فأما اللذان تبين أمرهما وكفيت تجربتهما ، فصالح بين فساق وفاسق بين صلحة ، فلو كان للصلاح إلى النفس هذا أو للفساد إلى نفس ذاك من سبيل ، لكان في بيئته ومخالطته ما يكفي لتبديل حاله ، وأما اللذان أنت منهما على تجربة فصالح بين صلحة وفاسق بين فسقه ، فلعل أحدهما لو كان في غير بيئته لكان حاله غير ما تراه).
بَيد أن الأمن على الطباع أن تسوء وتتغير لا يقطع دابر المفاسد التي يجرها لاختلاط بالسيئين والأشرار ، فقد تكون مضارهم في توجيه شرورهم إليه إذ لم يكن شريكاً لهم في الشر . وكم ذا ترى من حرص الأشرار على حمل خلطائهم أن يشاركوهم في مفاسدهم وشرورهم ، فإذا يئسوا منهم دبَّروا لهم من الكيد وألحقوا بهم من الأذى مالا قبل لهم باحتماله . ولعل حرص الأشرار على تعميم شرورهم ودعوتهم الغير إلى التأسي بهم أكثر من حرص بعض الأخيار على تعميم الدعاية لهدايتهم. بل لو أمنا هذه الناحية وكان المخالط لهم من القوة والمكانة بحيث يعتصم منهم ، لكفاه التضرر برؤية الشرور ، والتأذى بمشاهدة المفاسد ، وهذا هو ما يشير الحديث إليه بقوله :(أو تجد منه ريحاً خبيثة). فإن لم يتأذ بمشاهدة تلك الشرور والمفاسد فقد مرنت نفسه عليها فليبك على نفسه ، وليعلم أنه اطمأن إليها ، غذ ضعف أو زال تأذيه بها ، وهذا باب الخسارة ، يوشك أن يألفها ويستحسنها ، ثم يقارفها وينغمس فيها ، وللشيطان مسالك لا يتنبه لها المرء ، إلا إذا أخذ حيطته من بعيد ، ولذلك قالوا : إن المكروه حمِّي ، من قارفه وانغمس فيه انحدر منه إلى الحرام ، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
لا إخالك بعد هذا إلا مقتنعاً بأن الوحدة خير من جلس السوء ، وممتلئاً بعقيدة أن جليس السوء كنافخ الكير ، إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد ريحاً خبيثة ، بإحراق الثياب ، بالمشاركة وسريان الطباع ، أو بنزول آثار الشر به ، والريح الخبيث ما تجده من الاشمئزاز لمشاهدة السيئات.
أين هذا من الجليس الصالح ؟ فأنت بين أن تقتدي به وتهتدي بسيرته ، وبين أن تغتبط بمشاهدة الآثار الصالحة والآداب الكريمة تتحلى بها النفوس الطيبة الطاهرة ، وإن لمشاهدة ذلك للذة يشعر بها من لديه شعور ، ولم تتحجر نفسه إلى درجة الفجور والعراقة في الإجرام ، حتى إن من يلم بالمعاصي ، ويأتي في بعض حالاته شيئاً من المنكرات ، تجده يهش لرؤية آثار الخير تبدو على نفوس الأصفياء الطاهرين ، فإما أن يهتدي بهم ، وهو أبلغ منفعة تصل من الأخ لأخيه ، وإما أن يناله قسط من حسن المعاشرة ، وهو المرتبة الثانية. وقد أشير إليهما بالتشبيه بأن تبتاع منه ، أو يحذيك أي يمنحك ، والثالثة وهي مرتبة أن تسر لرؤية آثار الخير ولو من الغير نحو الغير بالتشبيه بأن تجد منه ريحاً طيبة.
أفلا ترى مع هذا البيان صدق قولهم : الجليس الصالح خير من الوحدة؟ نعم: تكون الوحدة خيراً من جليس السوء إذا لم يكن المرء ممن ينتظر منهم النفع والتأثير ، وإلا فمن كان بهذه المثابة ينبغي أن ينزل نفسه منزلة الطبيب يباشر المرضى لعلاجهم ، ويتعهدهم لإصلاح شأنهم ، فإذا أفلح فقد دخل في مصداق قوله صلى الله عليه وسلم : (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) وإن فشل فلم يخسر شيئاً من جزائه عند ربه على ما أبلى وجاهد في صلاح قومه وعشيرته ، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.
نسأله جل شأنه أن يجعل الهداية رائدنا ، وحسن النية قائدنا ، والفوز بالسعادة غايتنا ، و هو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه و سلم.
المصدر : مجلة نور الإسلام ، شعبان 1352هـ ، العدد 38.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين