فضائل القرآن الكريم: اهتمام القرآن بإصلاح النفوس -2-

 

قلنا في مقال سابق أن القرآن الكريم عنى بالروح، والنفس، و الفطرة، والضمير، والسريرة فلم يغفلها، مع أن الاهتمام بذلك كله يعد من خصائص علم النفس أو علوم الطبيعة، والقرآن كتاب تشريع أنزله الله هداية ونوراً للناس، وهو حين عرض لهذه الأمور عرض لها من ناحية الهداية.

لذلك نجده يجيب على السؤال الذي وجهه المعاندون إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بخصوص حقيقة الروح جواباً يدل على أن حقيقة الروح قد استأثر الله بعلمها فيقول: [وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا] {الإسراء:85}. وقد عنى بالنفس فذكرها بما يهذبها وجعل أساس هذا التهذيب تذكيرها بالموت واليوم الآخر والبعث والحساب، و السؤال عما قدَّمت من الأعمال، ثم بالعذاب الأليم أو النعيم المقيم، [فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُورِ] {آل عمران:185}. وقال: [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ] {الأنبياء:35}.

وأعلن سبحانه أنه أرشدها إلى الطريقين فقال [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10) ]. {الشمس}..

وأخبر جل شأنه أنه خلق لنا السمع والأبصار والأفئدة لنوجهها إلى شكر الله على نعمه، قال سبحانه:[وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] {النحل:78}.

وحذَّر النفس عاقبة اتباع الهوى، ورغّبها في مخالفته، قال: [فَأَمَّا مَنْ طَغَى(37) وَآَثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا(38) فَإِنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَأْوَى(39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى(40) فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى(41)]. {النَّازعات}..

ويقول تعالى يقص علينا ما وعظ به نبيه داود عليه السلام:[يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ] {ص:26}. 

ويصف جل وعلا للإنسان كيف ينجو من وساوس النفس إذا حدثته بسوء قال سبحانه:[وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ] {ق:16}. فإذا ايقن الإنسان أن الله مطَّلع على سريرته، وأنه يعلم خلجات نفسه، وإذا ت ذكر جلال ربه وأنه أقرب إليه من عرق الحياة، استطاع أن يدفع الوساوس التي تغريه بمخالفة أوامر الله.

يوضح ذلك قوله تعالى:[وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] {الأعراف:200}. فإذا استعاذ بربه من وساوس الشيطان أعانه وأعاذه، وبصره طريق الرشد وجنبه طريق الغواية، فصار على الطريقة المستقيمة.

ويجليه أيضاً قوله سبحانه:[إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ] {الأعراف:201}.

وهذه الآية الكريمة تصور لنا كيف يستطيع المؤمن التقي أن يتجنب نوازع الشر، ويستجيب لنوازع الخير، فإذا وسوس له الشيطان ارتكاب جريمة من الجرائم، أو معصية من المعاصي، أو عمل من أعمال السوء، اشعر قلبه خشية ربه فأبصر عاقبة أمره، وكانت نتيجة الإقدام والإحجام مائلة أمام ناظريه، فأقلع عن غيه، وكان له من ضميره اليقظ  مانع، ومن شعوره الحي حاجز. وقد بيَّن الله لنا في كتابه العزيز أن خوف القلب من الله دليل الإيمان وعلاقة اليقين، قال تعالى:[إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ] {الأنفال:2-4}.

فالمؤمن إذا أشعر قلبه جلال الله امتلأ قلبه بالوجل من هيبته والخشية من عظمته، فإذا تليت عليه آياته التي تذكره بربه، وتحثه على طاعته، وتزجره عن معصيته، ازداد إيماناً، ويقينا على يقينه، فلم يعتمد على أحد سواء، وكانت قرة عينه طاعته ورضاه، فأقام الصلاة، وأنفق مما آتاه الله، فاطمأن قلبه، وسما شعوره، وفي ذلك يقول الله تعالى:[الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ] {الرعد:28}.

ولقد قصَّ علينا القرآن الكريم أن أم موسى عليه السلام لما أوحى الله إليها أن تلقيه في القيم، ألقته إيماناً بوعد الله لها أن يرده غليها، وأن يجنبه الردى، وأن يحفظه من الأذى، وأن يجعله من المرسلين، فكان إيمان قلبها داعياً إلى امتثال أمر الله بما لا يقدم عليه إلا أصحاب القلوب السليمة المؤمنة الموقنة، فلما التقطه آل فرعون ووقع في أيديهم خشيت عليه السوء، فلم يكن لها درع يقيها من المجاهرة بأمره إلا ما أنزل الله على قلبها من ثبات  واطمئنان، وفي ذلك يقول الله تعالى:[وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ فَالتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ] {القصص:7-10}. 

وهل أقدم إبراهيم عليه السلام على امتثال أمر الله بذبح ولده إلا بقلب صادق وضمير حي مطئمن إلى رحمة الله و رأفته، فجعل الله له من أمره يسراً، وكان عاقبة أمره خيراً، فناداه الله: [وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلَاءُ المُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ] {الصَّفات:107}.

وانظر كيف جعل الرسول صلى الله عليه وسلم القلب مصدر إلهام المؤمن و وحيه، و مبعث أمره ونهيه، فقد روى وابصة بن معبد رضي الله عنه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا اريد ألا أدع شيئاً من البر والإثم إلا سألت عنه، فقال لي: إدن يا وابصة، فدنوت منه حتى مست ركبتي ركبته، فقال لي: يا وابصة أخبرك ما جئت تسأل عنه؟ قلت يا رسول الله: اخبرني قال: جئت تسأل عن البر والإثم؟ قلت: نعم، فجمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدري ويقول: يا وابصة استفت قلبك،  البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في القلب وتردد الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك).

إن في يقظة الضمير صلاح المجتمع وسعادة الناس في  معاشهم ومعادهم، فالقائم بطاعة ربه إذا صدقت نيته وطهر ضميره، أخلص في عبادته وتجنب الرياء فأرضى مولاه وسعد في دنياه وأخراه.

والموظف إذا كان له من ضميره اليقظ ما يدفعه إلى إنجاز عمله خدمة لأمته ووطنه، أنتج ثمرة طيبة، ونعم برضاء رؤسائه ومثوبة ربه.

والعامل والصانع والتاجر إذا أحسنوا في عملهم، فتجنبوا الغش والكذب والإهمال والتفريط والتلبيس والتدليس، قياماً بالواجب، وإرضاء للضمير، ومراقبة لأوامر الله، كان لذلك أعظم الأثر في نفعهم ونفع الأمة، هدانا الله ما فيه الخير، وهيأ لنا من أمرنا رشداً...

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة كنوز الفرقان ربيع الثاني 1368هـ 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين