فضائل القرآن الكريم: اهتمام القرآن بإصلاح النفوس -1-

 

سخاوة النفس:

قال الله تعالى في كتابه الكريم:[وَآَتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا] {الإسراء:26-27}.

عنى القرآن الكريم بإصلاح النفوس من داء الشح الذي اعتبره الإسلام مرضاً مهلكاً للفرد والمجتمع، والواقع أن الحرص على المال من طبيعة النفوس، فهي تميل إلى البخل، ولابدَّ لتطهيرها من هذا الوباء من علاج الطبيب الخبير والحكيم العليم بغرائز النفوس وظواهرها وخوافيها، وأحاسيسها ومراميها، علاجاً ناجعاً يجانب الافراط والتفريط، فإن فضيلة السخاء ترتكز على سماحة النفس بإنفاق المال فيما يُحمد من الأعمال، فإذا لم يرتكز السخاء على ذلك بل دفع إليه الرياء وحب الظهور، لم يكن محمدة، وإذا ارتكز على القسر كالتبرعات التي يراعى فيها مجاملة من يخشى من الناس، لم يكن فضيلة، وإذا أنفق  المال فيما لا ينبغي من الأعمال كان ذلك رذيلة.

والفضائل كثيراً ما تشتبه في مظهرها بالرذائل في مخبرها، وكثيراً ما يلبّس الشيطان على الناس الرذائل فيكسوها ثوب الفضائل، فالتبذير قد يسميه بعض الناس كرماً وسخاءً، والاقتصاد قد يسميه فريق منهم بخلاً وشحاً.

والقانون الشرعي هو الذي يضبط الفضائل، ويزيد عنها الخفاء والإلباس، وقد بيَّنت التعاليم الإسلامية حدود الفضائل حتى لا تلتبس بالرذائل، ليسلم المجتمع من الشرور.

والقرآن الكريم أوضح هذا فقال: [وَآَتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا] {الإسراء:26-27}.

فقد أمر الله بإعطاء الحقوق لأهلها، كنفقة الزوجة والوالدين، والأولاد وصلة الرحم، وإعانة المساكين وأبناء السبيل، و نهى عن التبذير في هذا الإعطاء، وجعل المبذرين إخوان الشياطين، لأن المبذر مفسد لماله، والشياطين مفسدون في الأرض، والشيطان بلغ الغاية في كفران نعمة ربه، وكذلك المبذِّر كافر بهذه النعمة، لأن الشاكر من يصرف النعمة فيما  خلقت له، والكافر من يجحدها أو يصرفها في غير ما  خلقت له، ثم رسم لنا الطريقة المثلى في الانفاق، و بيَّن مضار التقتير والتبذير فقال: [وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا] {الإسراء:29}.

هذا هو الطريق السليم الذي يجب أن يسلكه العقلاء في إنفاق المال: توسط في غير تفريط ولا إفراط، وقصد في غير إسراف ولا بخل، ويقول الله تعالى في هذا المعنى أيضاً:[وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا] {الفرقان:67}.

هذه هي القنطرة التي أقامها الإسلام للنجاة من التقتير والتبذير والسلامة من اللوم الذي يلحق البخيل، والحسرة التي تلحق المبذر.

والإسلام حين راعى مصالح البشر المتشعبة المتكاثرة، فطالب بإنفاق المال، راعى مصلحة صاحب المال أيضاً، لأن المال  عامل من أهم عوامل إصلاح المجتمع، فكلَّفه أن يرعى مستقبله ومستقبل ذريته وأقاربه من بعده.

جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عليه أن يتبرع بماله كله صدقة في سبيل الله فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك حتى عرض أن يتصدق بالثلث، فوافق رسول الله على ذلك وقال: (الثلث والثلث كثير).

والاقتصاد والقصد في النفقة والمعيشة لا ينافي السخاء، ولا يجافي الجود والكرم، ولا يتنافر مع البذل والإحسان، ولا يشبه البخل والتقتير.

فالاقتصاد ادخار جزء من المال لا تدعو إلى انفاقه مقتضيات الحياة، وذلك بقصد الانتفاع به عند الاقتضاء، ومن المعلوم أن القصد هو التوسط في الانفاق وأن السخاء هو إنفاق المال فيما ينبغي من الأعمال، وأن التبذير هو إنفاق المال في غير حقه، أما الشح فهو إمساك المال حيث ينبغي الإنفاق، كمانع الزكاة، و المضيق على نفسه، وأهله، وقاطع رحمه من الإكرام، ومانع بره عن المساكين،  والفقراء والأيتام، وقابض يده عن التبرع لمشروعات الخير كإنشاء المدارس والمصحات، والمصانع وغيرها من معاهد الإصلاح التي تساعد على ترقية الأمة، والترفيه على أبنائها في حياتهم المادية والمعنوية.

والشّح آفة اجتماعية خطيرة، وخلق ذميم، نهى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عنه، وبيَّن ضرره قال: (إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)رواه مسلم (2581).

وهذا تصوير رائع لضرر الشح، فهو من أسباب التقاتل وإراقة الدماء، واستحلال المحارم، والاعتداء على أموال الناس بالسلب والنهب والتلصص والاحتيال، والقرآن الكريم بيَّن هذا المعنى في كلمة جامعة إذ يقول: [وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] {البقرة:195}.

والإنفاق في سبيل الله باب واسع لبذل المال في جميع أنواع الخير والبر، وإمساك المال عن ذلك مضيعة لمصالح الأمة، ومتلفة لمنافعها، ومهلكة لحياتها، إذ هو سبب حقد نفوس الفقراء على الأغنياء فيتربصون بهم الدوائر للاعتداء على أموالهم ودمائهم.

والآية الكريمة حين حثَّت على الانفاق في سبيل الله وحذّرت من التهلكة المترتبة على الإمساك، أمرت بالإحسان عند الانفاق، وهو مراقبة الله عند السخاء بالمال، فلا يقصد غير وجه الله تعالى، ولا يسرف ولا يقتر، فإن الله يبغض المرائين والمسرفين والمقترين، ويحب المحسنين.

وهذا إغراء بالإحسان والسخاء أيّما إغراء، فإن محبة الله غنم تتطلع إليه القلوب الطاهرة، وتتعشقه النفوس الصالحة، وقد عالج القرآن الكريم النفوس الشحيحة، لانتزاع داء الشح منها، منعاً لشّره وتلافياً لضرره.

ولما كان منشأ الشّح الحرص على المال، والخوف من الفقر، كما يزيِّنه الشيطان للناس، عنى القرآن الكريم بذلك فأكد للأسخياء أن سخاءهم طريق لنماء المال، وزيادة الثراء، لا إلى الفقر والإملاق، فضلاً عن الأجر الذي أعده الله لهم في الدار الآخرة.

وذلك منتهى ما يرجو المرء في حياته ومعاده، قال تعالى: [وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ] {سبأ:39}. وقال جلَّ شأنه: [وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا] {المزمل:20}. وقارِن بين وعد الله وتخويف الشيطان، فقال:[الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] {البقرة:268}.

هذان و عدان أحدهما من رب كريم، والآخر من شيطان رجيم فكيف يؤثر عاقل وعد الشيطان على وعد الرحمن؟!!

ومن هذا نفهم جلياً مغزى قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد) مسند أبي داود الطيالسي (2573).

فالبخل خلق ذميم، ينافي عملياً عقيدة الإيمان، ورذيلة من أشد الرذائل ضرراً بالمصالح العامة.

أما السخاء ففضيلة من أجلِّ الفضائل، وحسبنا في المقارنة بينهما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (السخي قريب من الله قريب من الناس، قريب من الجنة بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنة قريب من النار) المعجم الأوسط للطبراني(2363).

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة كنوز الفرقان ربيع الأول 1368 العدد الثالث السنة 1

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين