فريضة محكمة ودعوة كريمة - الطريق إلى بيت الله الحرام
المقـدمـة
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، فاطر السموات والأرض، مَنْ له الحمد في الأولى والآخرة، لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل ، وكبره تكبيراً.
وأشهد أن سيدنا ومولانا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون.
أما بعد:
فإن هذا  الدين الشامل الكامل الذي ختم الله به الأديان، وأتم فيه على البشرية النعمة، وأظهر علينا من أجله المنة، بُني على أركان قوية، وأسس متينة... يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً" (1)
هذه الأركان الخمسة في جملتها لُبُّ في جملتها هي لب الدين وجوهره، وسقفه وأرضه وجدرانه، بدونها كلها لا يكون للإسلام وجود، وبدون بعضها لا يستمر له بقاء.
وهي في ظاهرها عبادات محضة وشعائر خاصة، ولكنها في حقيقتها عبادات وأخلاق، وسلوك والتزام، وحياة ونشاط، لا تكاد تجد ركناً للحياة ركيناً، ولا جانباً مهماً إلا ووجدت لهذه الأركان الخمسة ـ بشكل أو آخر ـ تداخلاً فيه وتأثيراً، وتفاعلاً معه وامتزاجاً.
وبعض هذه الأركان عبادة بدنية محضة كالصلاة والصيام، وبعضها مالي محض كالزكاة، ولكن بعضها امتزج فيه عمل البدن ببذل المال، فهو عبادة مالية بدنية، وذلك هو الحج.
ويهمنا نحن في مواضيعنا المتسلسلة هذه تبيان جوانب تلك العبادة المالية البدنية، وكشف الغطاء عن مستور بعض أسرارها، وإظهار فضائلها، وذكر آدابها، وجني ثمراتها، وإبداء شرفها ومقامها.
فريضة محكمة ... ودعوة كريمة
إن الحج فريضة محكمة في كتاب الله عز وجل، صرح بذلك القرآن الكريم حيث يقول سبحانه:
(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (1). فكانت الفريضة بذلك ثابتة ثبوتاً لا شك فيه، وعامة على الناس عموماً ظاهراً، ومرتبطة ارتباطا أساسياً بالاستطاعة والقدرة اللتين إذا توفرتا فلا مناص للعبد المسلم من أداء الحج ولا فكاك... لذا جاء في ختام الآية نفسها التخويف من ترك الحج والتهاون به بالكفر والجحود فقال سبحانه:
(وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).
والحج فوق كونه عبادة واجبة فهو استجابة من المؤمنين لدعوة كريمة سبق وأن نادى بها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، بعد أن انتهى من بناء البيت الحرام، فقد قال قتادة: لما أمر الله عز وجل إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج نادى:
ـ  يا أيها الناس إن الله عز وجل بنى بيتاً فحجوه... وذلك مصداق قوله تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) (1).
وقد بدا لإبراهيم عليه السلام أنه إذا دعى الناس بصوته الضعيف ـ على كبر سنه ورقة عظمه ـ فلن تبلغ دعوته إلا إلى القليل القريب منه، ولكن الله في الحديث القدسي قال له:
ـ "إنما عليك النداء وعلينا البلاغ" (2).
ضيوف كرام
على أن الحاج وهو يهوي بفؤاده نحو البيت الحرام، وتتحرك في نفسه الرغبة بأداء النسك، لا يحلم بأكثر من أن يكون ضيفاً على الله، يستحق منه التكريم والقبول، ومن أكرم من الله ؟!...
يقول عليه الصلاة والسلام:
ـ "الحجاج والعمار وَفْدُ الله، دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم" (1)
وأكبر ضيافة يُنعم بها الله عز وجل على الحجيج، وهم في حرمه يلبون، وببيته يطوفون، ووفق ما أمرهم يتصرفون، أن يبدلهم بسيئاتهم حسنات، وبخطيآتهم مكرمات ، وأن ينزع عنهم ثوب الآثام والأوزار، ليكسوهم حلة المغفور لهم من الأبرار، يقول عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم:
"من حج لله فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" (2)
الخير العميم في رحاب البيت العتيق
ومما يجب التذكير به دائماً: أن الحج المبرور باب مفتوح إلى الجنة، شأنه في ذلك شأن الصيام والصلاة والزكاة، التي ورد في كل منها أنها موصلة إلى الجنة... فقد قال عليه الصلاة والسلام في الحج:
"الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" (3).
أما أولئك الذين يتساهلون في أداء الحج، ويتكاسلون رغم توفر الأسباب والاستطاعة، ودون مانع شرعي مقبول، فهم المحرومون من القدوم على الله، والإقبال عليه، والظفر  بنظراته الكريمة، ونفحاته الجليلة بل هم أولئك الذين طبع الله على قلوبهم، وأعرضوا عن ربهم، حتى تبرأ منهم الإسلام والإيمان، وفاتهم وصف التعبد والإحسان، فلمثل هؤلاء وأشباههم يقول صلى الله عليه وسلم:
" من مات ولم يحج  فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً" (1)
فكم فات هؤلاء البؤساء المحرومين من خير؟ وكم فرطوا في حق الله وقصروا؟ وكم جنوا على أنفسهم وأخطؤوا؟ ألا يحسون بالندم والحسرة لما خسروا من  رحمة الله التي تكتب للحجاج ضيوف الرحمن؟‍‍‍‍‍.
يقول ?: "ينزل على هذا البيت في كل يوم مئة وعشرون رحمة: ستون للطائفين، وأربعون للمصلين،  وعشرون للناظرين" (2).
وفي الخبر: "استكثروا من الطواف بالبيت، فإنه من أجلّ شيء تجدونه في صحفكم يوم القيامة، وأغبط عمل تجدونه" (3)
وفي الختام:
نسأل الله سبحانه بواسع كرمه وصالح عملنا أن يجعلنا مع الذين كتب الله لهم الاستجابة، ومنحهم القبول، وتفضل عليهم بالمغفرة، وفتح عليهم بالمعرفة، وأن لا يحرمنا مع المحرومين، أو يطردنا مع المطرودين، أو يعرض عنا مع الذين لا ينظر الله إليهم ولا يكملهم ولا يزكيهم... إنه هو السميع العليم.
 
الحاج يستعد للرحيل
إذا ملأ الحنين قلب المسلم بالشوق إلى الله، وفاضت نفسه بالرغبة في القدوم إليه، وحداه حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، وساقه الحب والإيمان إلى الاستعداد لترك الأهل والأوطان، من أجل الرحيل إلى الواحد الديان، وقف مع نفسه وقفة بصير، وتساءل تساؤل الخبير:
ـ أيحق  لي وأنا على ما أنا عليه من حال الغفلة والتقصير أن أكون من وفد العزيز الغفور، ألا يليق بمن تهيأ للقدوم على الملك الجبار أن يكثر من الندم والاستغفار، أليس حرياً بمن يريد القبول أن يكون من زهاد الدنيا وطلاب الآخرة.
إن رحلة الحج ليست سياحة مجردة، ولا هجرة مفرغة المعنى، ولا نصباً وتعباً دون فقه ووعي، بل رحلة الحج خروج من دار الذنوب إلى أرض التوبة، ومن حال الإساءة إلى مرتبة الإحسان، ولذلك فلا بد لها من الاستعداد والتهيؤ بما يناسبها ويليق بها.
التوبة أولاً:
1ـ وأول ما يفكر فيه الحاج الصادق البدء بالتوبة من كل ذنب سبق، ليكون أهلاً  لكل خير يلحق، فالتوبة مفتاح القبول عند الله، وهي أرجى أحوال العبد لدى مولاه... ولْيسمع الحاج  نفسه تصديقاً لهذا قول الحق سبحانه:
(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (1)... ولْيحملها على الإكثار من الاستغفار في الليل والنهار، فإن كلمة الاستغفار كما جاء في الآية الكريمة من أحب الكلام إلى الله سبحانه:
(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً) (2).
 
إياكم والمظالم ‍‍‍!..
2ـ ومن صدق التوبة ومن علامة الجد فيها رد المظالم إلى أهلها، إن كانت مالاً، أو طلب السماح منهم إن كانت حقوقاً، فإن التوبة ليست كلمة يرددها المرء بلسانه، ثم لا يتحمل تبعتها بفعله، بل التوبة النصوح الصادقة سلوك مستقيم، وخروج عن جميع الأفعال والمعاصي التي كان عليها قبل التوبة.
إن التوبة الصادقة هي التي تتضمن الأمور التالية:
- الإقلاع عن المعصية.
- والندم على ما فات.
-  والعزم على أن لا يعود.
- وإيصال الحقوق إلى أهلها.
ومثال ذلك: سارق المال الحرام، أو آكل مال اليتيم ظلماً، أو غاصب الشيء قهراً، لا بد أن يترك الحال التي هو عليها، ثم يندم ندماً صادقاً على ما كان منه، ثم يصر ويعقد العزم الصادق على أن لا يقارف الذنب ثانية، ثم يقوم بكل شجاعة وجرأة فيلزم نفسه برد ما كان تحت يده من أموال الآخرين، أو طلب السماح والعفو منهم، أوتعويضهم عما فاتهم بسببه.
إن الحاج أولى الناس بالقيام بتبعات التوبة الصادقة، قبل الدخول في عبادة الحج التي يرجو منها أن يعود آخر الأمر كما ولدته أمه، نظيفاً من الذنوب، خلياً من الآثام.
تفريغ الخدمة من الديون
3ـ وعلى الحاج قبل أن يخرج لحجه أن يقضي الديون التي عليه لعباد الله إذا كانت مستحقة الوفاء سنة الحج، حتى لا يحج  بمال يطلبه فيه الغرماء، فيكون حجه سبباً من أسباب المماطلة في أداء الدين، وحاشا لله أن يكون الحج المبرور كذلك، بل هو على العكس من ذلك يعلمنا قضاء الحقوق  والديون، ولا تأخيرها وهضمها.
والديون التي ينبغي على الحاج قضاؤها قبل الخروج لحجه هي تلك التي إذا خرج لحجه فرط في أدائها، أو عجز عن ذلك، أما إذا كانت الديون تجارية مضمونة بما لديه من مال في بلده، أو كانت مؤجلة برضا أصحابها إلى سنة أخرى، ووقت لا حق يستطيع أن يوفيها عند حلوله، فلا مانع، ولا بأس، بل ولا داعي أن يستأذن أصحابها في الحج.
المال  الحلال شرط أساسي
4ـ ومن المعلوم أيضاً أن الحاج لا يستطيع الحج دون مال، ولذا فقد كان مطالباً أن يحج بمال حلال لم يكسبه بمعصية ولا إثم، بل كسبه من عمل مباح أو مورد مشروع.
وإذا لم يتيسر للحاج مال حلال يكفيه لذهابه وإيابه ونفقاته وحاجاته فإنه لم يفرض عليه الحج ولم يطالب به، وذلك من قول الله سبحانه:
(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (1)
وقد فسر النبي ? الاستطاعة بأنها: "الزاد والراحلة" (2) وذلك يناسب عصر النبوة الذي من امتلك فيه زاداً يكفيه رحلته، ودابة تحمله في ذهابه وإيابه فقد استطاع الحج وتمكن، ومن لا فلا.
وفي عصرنا هذا تبقى الاستطاعة شرطاً لفرضية الحج، ولكنها تختلف صورتها عما كانت عليه سابقاً، فهي في يومنا هذا: ما يكلفي لأجرة (الحملة) في حدها الأدنى، مع إبقاء نفقة الأهل مدة السفر، وتوفر الشروط الصحية المطلوبة، ووجود التأشيرات الدولية اللازمة، وامتلاك الأوراق الثبوتية الرسمية، فإذا وجدت هذه كلها تحققت الاستطاعة، وإذا فقدت كلها أو بعضها فقد تحقق العجز عن الحج.
هذا ولا يكلف الحاج الاستدانة ليحج، بل إن كان يعلم أن وفاء الدين متعذر عليه، وأنه غير مقتدر على سداده حرم عليه ذلك خشية أكل أموال الناس بالباطل!! أما إن كان ذا مال غائب، ومثل هذا الدين لا يضره، وهو واثق من أدائه، فله أن يستدين ليحج، وإن كان هذا غير واجب عليه.
ولنذكر قول المصطفى عليه الصلاة والسلام في صدد المال الحلال وقبول الحج به، والمال الحرام وردِّ الحج  به !! حيث قال:
"إذا خرج حاجاً بنفقة طيبة، ووضع رجله في الغَرْز(*)، فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء، لبيك وسعديك،  زادك حلال وراحلتك حلال وحجك مبرور غير مأزور، وإذا خرج بالنفقة الخبيثة، فوضع رجله في الغرر فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام ونفقتك حرام وحجك غير مبرور" (1).
وكما لا يكلف الحاج أن يستدين لا يكلف أن يكذب ليحج، فإذا لم يمنح تأشيرة حج رسمية فلا ينبغي له أن يكذب فيدعي السفر إلى بلد آخر مروراً بالمملكة العربية السعودية حتى إذا منح تأشيرة مرور ودخل أراضيها عرّج على الحج فحج ثم تابع سفره أو عاد أدراجه.
الرفيق قبل الطريق
5ـ وما يحسب له الحاج  حساباً وأي حساب: الرفيق الصالح في رحلة الحج  وعبادته.
فالحج عبادة جماعية لا يمكن أن يؤديها المسلم بمفرده، بل لا بد أن يؤديها مع مجموع الحجاج وجملتهم، ومن الضروري جداً لدينه وتقواه، ومن أجل الاستعانة على الطاعة والحفاظ على الاستقامة، وفي سبيل تحقيق معاني الصبر والعزيمة في هذه العبادة يختار الحاج رفيقاً مؤمناً محباً للخير معيناً عليه، كما يقول  الغزالي  رحمه الله: إن نسي ذكّره، وإن ذكر أعانه، وإن جبن شجعه، وإن عجز قواه، وإن ضاق صدره صبرّه.
إن الرفيق الصالح خير زاد، وأفضل عدة، وأقوى معين على جميع المناسك، وسائر المكاره، وفاضل الأخلاق، وجميل الصفات، وهو الأنيس في الوحشة، والدليل في الغربة، والأخ الصدوق عند المشورة... وبالرفيق الصالح تبقى الذكريات الجميلة الحميدة خالدة في نفوس الحجيج.
ولئن كان الحاج يستعد للحج بشتى أنواع الاستعداد المادي والمعنوي فإن اختيار الرفيق الصالح من أهم ما يشغل البال، ليكون المؤمن بأخيه المؤمن قوياً في الله، صبوراً عند الشدة، خلوقاً عند البلاء... وقد علمنا الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم أن الرفيق الصالح مكسب كبير لجليسه:
"مثل الجليس الصالح كحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد ريحاً طيبة" (1).
وإن من المشاهد الملموسة أن الرفيق غير الصالح  مصدر إزعاج للآخرين، وسبب من أسباب التكدير عليهم، وما ذلك إلا لأنه كما قال عليه الصلاة والسلام: "كنافخ الكير إما أن يحرق ثوبك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة..." وإذن فإن لم يكن ممكناً اختيار الرفقة كلها من الصالحين ـ وهذا أفضل ـ فليكن جارك المجاور ورفيقك الأقرب من الصالحين الصادقين الذين قال الله فيهم:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) (2).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين