فرعون مات كافرًا

نُسبَ إلى الشَّيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي رضي الله عنه القول بقبول إيمان فرعون، وافترق الناس بعده ثلاث فرق: فرقة أيَّدته، منهم الجلال الدواني الصديقي. وفرقة خطَّأته وتحاملت عليه، منهم ملا علي القاري، وفرقة من الصوفيَّة أوَّلتْ كلامه بأنه لم يرد فرعون المعروف، وإنما أطلقَه رمزًا على النَّفس في بعض أطوارِها.

لكنَّ العارف الشَّعرانيَّ حقَّق في كتاب "اليواقيتِ والجواهر" نفي([1]) صدور هذا القول عنه، ونقل نصوصًا من "الفتوحات الملكية" تُثبت كفر فرعون. وهذا هو اللَّائق بعلمه وذكائه، بله ولايته وما ألهم من المعارِفِ، ذلك أن كفرَ فرعون وعدم قبول إيمانِه ثابتٌ بنصِّ القرآن ثبوتًا قطعيًّا ليس للاحتمال فيه مجال، وإليك البيان:

1- قال الله تعالى يخاطِبُ موسى عليه السلام:﴿وَلَقَدۡ مَنَنَّا عَلَيۡكَ مَرَّةً أُخۡرَىٰٓ٣٧ إِذۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰٓ٣٨ أَنِ ٱقۡذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقۡذِفِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ فَلۡيُلۡقِهِ ٱلۡيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأۡخُذۡهُ عَدُوّٞ لِّي وَعَدُوّٞ لَّهُۥۚ﴾ [طه: ٣٧-٣٩] أخبرَ الله تعالى أنَّ فرعونَ عدوٌّ له ولرسوله موسى، إذْ هو الذي التقطه بواسطة أعوانه، والخبرُ لا يدخُله نسخ، فهذا قاطعٌ في أنَّ فرعون مات كافرًا عدوًّا لله ورسوله.

2- قال الله تعالى:﴿ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱلَّذِيٓ ءَامَنَتۡ بِهِۦ بَنُوٓاْ إِسۡرَٰٓءِيلَ وَأَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ٩٠﴾ [يونس: ٩٠].

آمن فرعون عند المعايَنةِ، وهو إيمان غير مقبول، لقولِه تعالى:﴿فَلَمَّا رَأَوۡاْ بَأۡسَنَا قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥ وَكَفَرۡنَا بِمَا كُنَّا بِهِۦ مُشۡرِكِينَ٨٤ فَلَمۡ يَكُ يَنفَعُهُمۡ إِيمَٰنُهُمۡ لَمَّا رَأَوۡاْ بَأۡسَنَاۖ سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدۡ خَلَتۡ فِي عِبَادِهِۦۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾ [غافر: ٨٤-٨٥].

ولذا ردَّ الله عليه بقولِه:﴿ءَآلۡـَٰٔنَ وَقَدۡ عَصَيۡتَ قَبۡلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ٩١ فَٱلۡيَوۡمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾ بجثتك ﴿لِتَكُونَ لِمَنۡ خَلۡفَكَ ءَايَةٗۚ﴾ [يونس: 91-92] عبرة. وجثته موجودة بالمتحفِ الذي يضمها وغيرها من آثار قدماءِ المصريين.

3- قال الله تعالى:﴿إِنَّ فِرۡعَوۡنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَٰطِ‍ِٔينَ﴾ [القصص: ٨] عاصين، هذا إخبار بأنَّ فرعون عاصٍ، وعصيانه عداوته لله ولرسوله، وهو قاطعٌ في هلاكه على الكفر، كهامان.

4- قال الله تعالى: ﴿كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحٖ وَعَادٞ وَفِرۡعَوۡنُ ذُو ٱلۡأَوۡتَادِ١٢ وَثَمُودُ وَقَوۡمُ لُوطٖ وَأَصۡحَٰبُ لۡ‍َٔيۡكَةِۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلۡأَحۡزَابُ١٣ إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ﴾ [ص: ١٢-١٤] أخبرت الآية أن فرعون كذَّب الرُّسل فاستحق عقاب الله تعالى وهذا قاطع أيضًا.

5- قال الله تعالى:﴿كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحٖ وَأَصۡحَٰبُ ٱلرَّسِّ وَثَمُودُ١٢ وَعَادٞ وَفِرۡعَوۡنُ وَإِخۡوَٰنُ لُوطٖ١٣ وَأَصۡحَٰبُ ٱلۡأَيۡكَةِ وَقَوۡمُ تُبَّعٖۚ كُلّٞ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ١٤﴾ [ق: ١٢-١٤] هذا أيضًا خبر بأن فرعون كذَّب الرسل فاستحق العقاب، وهو قاطع في الموضوع.

6- قال الله تعالى: ﴿إِنَّآ أَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ رَسُولٗا شَٰهِدًا عَلَيۡكُمۡ كَمَآ أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ رَسُولٗا١٥ فَعَصَىٰ فِرۡعَوۡنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذۡنَٰهُ أَخۡذٗا وَبِيلٗا﴾ [المزمل: ١٥-١٦] شديدًا، وهذا أيضًا خبر صريحٌ.

7- قال الله تعالى:﴿وَقَالَ فِرۡعَوۡنُ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَأُ مَا عَلِمۡتُ لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرِي فَأَوۡقِدۡ لِي يَٰهَٰمَٰنُ عَلَى ٱلطِّينِ فَٱجۡعَل لِّي صَرۡحٗ بناء عاليًا مرتفعًا: ا لَّعَلِّيٓ أَطَّلِعُ إِلَىٰٓ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُۥ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ٣٨ وَٱسۡتَكۡبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُۥ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ أيقنوا وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ إِلَيۡنَا لَا يُرۡجَعُونَ٣٩ للحساب والعرض فَأَخَذۡنَٰهُ وَجُنُودَهُۥ فَنَبَذۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡيَمِّۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلظَّٰلِمِينَ٤٠ الكافرين وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّةٗ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلنَّارِۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا يُنصَرُونَ٤١ بدفع العذاب عنهم وَأَتۡبَعۡنَٰهُمۡ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا لَعۡنَةٗۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ هُم مِّنَ ٱلۡمَقۡبُوحِينَ٤٢﴾: [القصص: 38-42] المشوَّهين بالعذاب، أو المبعدين من الرحمة، وهذا أيضًا خبرٌ صريحٌ قاطعٌ.

8- قال الله تعالى:﴿هَلۡ (قد) أَتَىٰكَ حَدِيثُ مُوسَىٰٓ١٥ إِذۡ نَادَىٰهُ رَبُّهُۥ بِٱلۡوَادِ ٱلۡمُقَدَّسِ (اسمه) طُوًى١٦ ٱذۡهَبۡ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ١٧(تجاوز الحد في الكفر) فَقُلۡ هَل لَّكَ إِلَىٰٓ أَن تَزَكَّىٰ١٨ وَأَهۡدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخۡشَىٰ١٩ فَأَرَىٰهُ ٱلۡأٓيَةَ ٱلۡكُبۡرَىٰ(وهي العصا)٢٠ فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ٢١ ثُمَّ أَدۡبَرَ يَسۡعَىٰ٢٢ فَحَشَرَ فَنَادَىٰ٢٣ فَقَالَ أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلۡأَعۡلَىٰ٢٤ فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلۡأٓخِرَةِ وَٱلۡأُولَىٰ﴾ [النازعات: ٢١ – ٢٥] وهي قوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَأُ مَا عَلِمۡتُ لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرِي﴾ [القصص: ٣٨] وكان بينهما أربعون سنة، ولو قبل إيمانه ما أخذه نكالًا، ولا أخذًا وبيلًا كما مضى في آية المزمل.

9- آيات في (سورة هود)، و(الإسراء)، و(طه)، و(العنكبوت)، و(الحاقة)، و(الفجر)، وغيرها تصفه تارة بالكفر والتكذيب، وتارة بإضلاله قومه، وتنظِّمه تارة مع عاد وثمود وقارون في سلك واحد، وأخرى تدرجه مع من أهلكوا بالغرق أو الخسف أو الصيحة.

10- مَنْ تتبع أسلوب القرآن الكريم في سياق أخبار الماضِين، وقصص الأولين، استخلص منه قاعدة هامة، تنفعه في هذا البحث وما يماثله، وهي:

أن القرآن إذا ذكر قومًا أو شخصًا بالكفر والتَّكذيب، وأخبر عن إهلاكهم، وكرَّر ذلك، فهو دليلٌ على أنهم هلكوا كفارًا خاسرين، خذ لذلك مثلًا قوم نوح، عاد، ثمود، قوم لوط، مدين، أصحاب الأيكة، قارون، هامان، فرعون، ذكرهم الله بالكُفرِ والتَّكذيب، والاستكبار والفساد.

وأخبر عن إهلاكهم تارةً في سياق واحد، وتارةً متفرقين، فهذا في صنيع القُرآن يدلُّ على أنهم هلكوا كافرين، وانظر إلى قوم يونس كيف تحدَّث عنهم في قوله تعالى:﴿فَلَوْلَا (فهلا)كَانَتْ قَرْيَةٌ (أي أهل قرية)آمَنَتْ (عند رؤية العذابِ) فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا (أي لم ينفعها إيمانها حينئذٍ) ( لكن) قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ(عند رؤية أمارة العذابِ، ولم يؤخروا إلى حلوله) عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [يونس: 98] ينقضي فيه آجالهم وفي قوله سبحانه:﴿وَأَرۡسَلۡنَٰهُ إِلَىٰ مِاْئَةِ أَلۡفٍ (بل)أَوۡ يَزِيدُونَ١٤٧ فَ‍َٔامَنُواْ فَمَتَّعۡنَٰهُمۡ (عند معاينةِ أمارة العذاب)إِلَىٰ حِينٖ١٤٨﴾ ، ثم لم يذكرهم بعد هذا ولا ذمَّهم.

فلو أن الله قبل إيمان فرعون لسكت عنه كما سكت عن قوم يونس، لكنه ذمه بالكُفر مرات، وذكر أن امرأته طلبتِ النَّجاة منه ومن عمله، وجعله مثلًا للمستكبرين المفسدين، فاحفظ هذه القاعدة النفيسة التي لا تجدها في غير هذا المكان.

المصدر: " خواطر دينية"

(1) ثم تبيَّن لي أنَّ كلامه في إثبات إيمان فرعون صريحٌ صحيحٌ، وهو مسبوقٌ به، فقد حكى القاضي عبد الصمد الحنفي في "تفسيره" عن الصوفية أن الإيمان ينفع صاحبه ولو حصل عند معاينة العذاب، لكن ما ذكرته هنا قاطعٌ في كفر فرعون.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين