فرصة للصبر

 
أيها المتزوجون كيف تسعدون
 
فرصة للصبر
محمد رشيد العويد
 
كان من الشباب الذيـن آتاهم الله من فضله ؛ فقد أنعم الله عليه بالثراء الذي ظهرت آثاره عليه .. في بيت كان أشبه بالقصر ، وسيارتين ، وخادمتين ، ورصيد لا أعرف مقداره ، لكني واثق من ضخامته ، فقد ورث عن أبيه ثروة كبيرة ، وعقارات كثيرة .
وعلى الرغم من هذا الثراء ، فقد كان شاكراً متصدقاً ، محافظاً على صلاتـه ، ولم تبطره النعمة .
كان قد تزوج قبل عشر سنوات ، لكنه كما علمت لم يكن سعيداً جداً في زواجه .
اتصل بي هاتفياً ، قال : أريد أن أراك لأمر أريد مشورتك فيه . اتفقت معه على أن يزورني في بيتي المتواضع .. متعمداً الابتعاد عن قصره المنيف .
لم يتأخر عن موعده ، بل أنه وصل قبله بقليل . رحبت به وأنا أتساءل في نفسي عن المشورة التي جاء يطلبها مني .. وإن كنت أخمّن أنها بشأن زواجه .
بعد سؤالي عن حاله ، واطمئناني عن أخباره ، قال لي : أريد أن أستشيرك في شأن وجدت عندك فيه خبرة ودراية من خلال كتاباتك الموفقة عن المرأة والعلاقات الزوجية .
قلت : هذا حُسن ظن منك يا أخي . تفضل .. فإني منصت إليك .
قال : تعلم يا أخي أني تزوجت قبل عشر سنوات .. ولعلك تحيط بشيء من خلافاتي المزمنة مع زوجتي التي يبدو أني لم أوفق في اختيارها .
قلت : أجل .. أعلم .
قال : لا أقول لك حياتي معها لا تخلو من تنغيص .. بل هي تنغيص خالص لا يخلو من ..
قاطعته : ماذا لا يعجبك فيها ؟
قال : لأكن صريحاً معك يا أخي . فأنا أطمئن إليك .. وإلى صدق نصحك .
قلت : قل يا أخي .
قال : لقد ابتليت بزوجة غير جميلة . مشاكسة . تغار عليَّ . تتملكها خشية دائمة من زواجي عليها .. وبخاصة وهي ترى المال يفيض بين يدي .
قلت : ألم تجرب مقابلة مشاكستها بالرفق واللين ...
قال : لا فائدة .. جربت .
قلت : أوعظتها كما أمر الله تعالى ؟
قال : ثم هجرتها .. ثم ضربتها .. لم ينفعها هذا كله .
قلت : وماذا تنوي أن تفعل ؟
قال : أفكر في تطليقها .
قلت : هل رزقك الله منها أطفالاً ؟
قال :أربعة . ثلاثة ذكور .. وأنثى .
قلت : هل فكرت بمصيرهم .
قال : يبقون مع أمهم حتى يكبروا .. فيكونوا معي .
قلت : وهل تثق برعاية أمهم لهم في غيابك عنهم بعد تطليقها ؟
قال : هي لهم أحسن ما تكون .. وأنا لا أشكو من تربيتها لهم .. إنما أشكو من تعاملها معي . وسأعطيها النفقة التي تستحقها .. وأزيدها .
قلت : قد رتّبت لكل شيء عدته .. فما المشورة التي تطلبها مني ؟
قال : أردت أن تشير عليَّ : أتراني أظلمها بتطليقها ؟
قلت : استشارتك هذه مؤشر خير فيك . مؤشر إلى خشيةٍ لله في نفسك .. ليس من ارتكاب حرام .. فالطلاق مباح .. ولكن خشية ارتكاب ظلم تجاه زوجتك . ومادامت هذه الخشية فيك .. فإني لن أجيب عن سؤالك بـ (( نعم )) أو (( لا )) .. بل سأحاورك .. لتختار أنت بنفسك إبقاء زوجتك أو تطليقها .
قال : تفضل يا أخي ، فوالله هذا ما سعيت إليه ؛ فتفصيل الحديث يريحني ويبعث الطمأنينة في نفسي .
قلت : كيف سكنك ؟
قال : تعني بيتي ؟
قلت : أجل .
قال : تعلم أن بيتي (( فيللا )) فيها كل وسائل الراحة ، ووفرت فيها كل شيء . فيها خادمتان . مع سيارتين عدا سيارتي الخاصة .
قلت : وطعامك ؟
قال : من أطيب الطعام . وليتنا نأكله جميعه . فالقمامة لها النصيب الأكبر منه .
قلت : لعلك تعلم يا أخي أن هناك ملايين المسلمين يصبرون على حرمانهم من السكن .. لا أقول السكن الجيد .. بل حتى السكن الصحي .. منهم ملايين المهاجرين يعيشون في الخيام .. وملايين غيرهم في أفريقيا ... وملايين الملايين من المسلمين لا يعيشون في المخيمات .. لكنهم لا يجدون السكن الذي يستأجرونه – لا يمتلكونه – ليتزوجوا فيه ...
أطرق صاحبي قليلاً .. بينما واصلت حديثي :
وملايين ملايين المسلمين لا يملكون من المال ما يشترون به كل ما تشتهي أنفسهم .. أو لا تتوفر في بلدانهم كل أصناف الطعام .. أو أن أسعارها مرتفعة وترتفع يوماً بعد آخر .. وهم يصبرون على هذا .
 
قال : أكمل يا أخي . فإني مصغ إليك .
قلت : أتشعر بالأمن في دعوتك إلى الله ؟
قال : الأمن كلـه ولله الحمد .. فأنت تعلم أن حكومتنا تدعو إلى الإسلام .. وتكفل الحرية لدعاته .. بل هي تناصرهم وتمكّنهم من دعوتهم وما تحتاج إليه من جمعيات ومؤسسات وهيئات ... وتتبع هذا كثيراً بالدعم المالي ...
قلت : ... ولا شك في أنك تعلم أن ملايين المسلمين .. في أقطار مختلفة .. لا ينعمون بهذا الأمن الذي ننعم به في الدعوة إلى الله .. ولا يجدون ما نجده من تأييد ودعم .. مع حرية وتمكين .
قال : أنت على حق .
قلت : وهم يصبرون على هذا ، ويحتسبونه عند الله ، ويبتغون من ورائه الأجر .
قال : ... ولكن ما صلة كلامك .. بما أعانيه من زوجتي .
قلت : ... ملايين ملايين المسلمين يصبرون على السكن غير المناسب .. أو على فقدانه كله .. ويصبرون على قلّة ما في أيديهم من مال .. ويصبرون على الفقر . ويصبرون على اضطهاد المتسلطين .. أو على حرمانهم من أوطانهم بعد فرارهم من بطشهم .. عشرات الملايين من المسلمين إن لم يكونوا مئات الملايين يصبرون في هذه الدنيا وهم يطمعون في الأجر الذي وعد به تعالى عباده الصابرين . فعلام تصبر أنت يا أخي.. وترجو من الله الأجر عليه ؟
صمت صديقي .. وهو ينظر إليَّ سارحاً متأملاً متفكراً ... ثم ابتسم وكأنه فطن إلى غاية كلامي وسؤالي فقال :
أنا أصبر على زوجتي !
قلت : وهو صبر لك فيه من الأجر الكثير إن شاء الله ..إن احتسبته عند الله . ألا أقص عليك تلك القصة التي حكاها الإمام ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر ؟
قال : تفضل .
قلت : قيل لأبي عثمان النيسابوري : ما أرجى عملك عندك ؟ قال : كنت في صبوتي يجتهد أهلي أن أتزوج فآبى .. فجاءتني امرأة فقالت : يا أبا عثمان إني قد هويتك .. وأنا أسألك بالله أن تتزوجني . فأحضرت أباها .. وكان فقيراً .. فزوّجني وفرح بذلك .. فلما دخلتْ إليَّ .. رأيتها عوراء عرجاء مشوّهة . وكانت لمحبتها لي تمنعني من الخروج .. فأقعد حفظاً لقلبها .. ولا أظهر لها من البغض شيئاً .. وكأني على جمر الغضا من بغضها . فبقيت هكذا .. خمس عشرة سنة حتى ماتت .. فما من عملي هو أرجى عندي من حفظي قلبها .
قال : وبم وصف ابن القيم صبر أبي عثمان النيسابوري ؟
قلت : لقد قال (( إن هذا من عمل الرجال )) .
قال : سبحان الله .
 
قلت : لقد وعد تعالى على الصبر وعداً حسناًَ . حتى تجاوزت الآيات الكريمة التي تحث على الصبر ، وتثني عليه ، وتعد الصابرين .. التسعين آية في القرآن الكريم . أأتلو عليك بعضها ؟
قال : ليتك تفعل .
قلت : قال تعالى : (( سلام عليكم بما صبرتم ، فنعم عقبى الدار )) الرعد 24 . وقال سبحانه : (( ولئن صبرتم لهو خير للصابرين )) النحل 126 . وقال تعالى : (( إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير )) هود 11 . وقال جل شأنه : (( ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )) النحل 96 . وقال تعالى : (( إني جزيتهم اليـوم بما صبروا أنهم هم الفائزون )) المؤمنون 111 . وقال سبحانه (( أولئك يجزون الغرفة بما صبروا )) الفرقان 75 . وقال تعالى : (( أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا )) القصص 54 . وقال سبحانه : (( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا )) السجدة 24 . وقال عز من قائل (( وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم )) فصلت 35 . وقال تعالى : (( وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا )) الإنسان 12 . وقال سبحانه : (( إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين )) يوسف 90 . وقال تعالى : (( واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور )) لقمان 17 . وغيرها من الآيات الكريمة التي حملت البشارة للصابرين : (( وبشر الصابرين )) البقرة 155 . (( إن الله مع الصابرين )) الأنفال 46 .. وغيرها .. وغيرها ..
قال : على الرغم من كثرة قراءاتي وتلاوتي للقرآن الكريم ، فإنك بجمعك لآيات الصبر معاً .. نبّهتني إلى قيمته ومكانته .. وعظم الأجر الذي وُعد به الصابرون .
قلت : أفلا ترغب في أن يكون لك من أجر الصابرين نصيب ؟
قال : بلى والله .
قلت : أما وإنك – ولله الحمد – تنعم بسكن ولا تصبر على فقده ، ويفيض المال بين يديك ولا تصبر على فقر ، وتتاح لك الدعوة إلى الله ولا تصبر على حاكم يطاردك ... فالحمد لله على أن أتاح لك فرصة الصبر على امرأتك .
قال : إنك على حق .
قلت : ولو نظرت إليها على أنها مصدر أجرٍ لك .. بصبرك على ما يصدر عنها .. لحرصت عليها .. ولم تتضايق من مشاكستها لك .. بل ربما رغبت في هذه المشاكسة .. لإدراكك أنك بصبرك على هذه المشاكسة .. تحظى بالأجر والثواب .
قال : لقد جلوتَ همي .. وأرحتَ بالي ... وسأصرف عن عقلي فكرة طلاقها ... وإني لأدعو الله أن يعينني على هذا .
 
 
 
قلت : ... وزد يا أخي من شغل نفسك بعملك مساء في الجمعيات الخيرية .. ومشاركتك الطيبة فيها .. ثم قلّل من جدالك لزوجتك ، ولا تكرر تهديدك لها بالطلاق ، وأشعرها ، بصورة غير مباشرة ، أنك معلق بالآخرة ، وأن همّك منصرف إلى هذه الجمعيات الخيرية – كما هو حالك فعلاً - .. فتطمئن إليك ولا تخشى من فيض المال بين يديك ..
قال : .. وهذا خير لأولادي أيضاً ...
قلت : أصبت .. وبخاصة أنك ذكرت لي أنها لأولادها أحسن ما تكون .. فلماذا تبعدهم عنك زمناً ... ثم تبعدهم عن أمهم – بعد انتهاء حضانتهم – زمناً آخر ...
قال : ألم أكن على حق في قصدي لك وتوجهي إليك ... ولقد كنت أبحث عن هذا . وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( وما خاب من استخار .. وما ندم من استشار )) . أخرجه الطبراني بسند ضعيف .
قلت : ليت الأزواج جميعهم مثلك .. يسرعون في الاستجابة للنصيحة ..
قال : لا تنسني يا أخي من دعوة بظهر الغيـب .. أن يشرح الله لي صدري .. ويصلح لي زوجتي .
قلت : أفعل إن شاء الله .
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين