فتنة داود عليه السلام

قال الله تعالى:﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ﴾ خبرهم ﴿إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ﴾ [ص: 21] محراب داود عليه السلام، وهو مسجده الذي أعدَّه للصلاة في بيته.

وكان قد رتَّب أيام الأسبوع، فجعل يومًا للقضاء بين الناس، ويومًا للعبادة، ويوما لأهله، ويومًا ينظر فيه شئون معايشِه، لأنه كان يأكل من عمل يده.

وجاء هؤلاءِ الخصومُ في يوم العبادة، فمنعهم الحرس من الدُّخول، وهم مستعجلون يريدون الفصل في قضيتهم، فتسوَّروا المحراب: ﴿إِذۡ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُۥدَ فَفَزِعَ مِنۡهُم﴾ حيث نزلوا من جهة السَّقف، وظنَّ أنهم يريدون به شرًّا، إذِ الملِك لا يخلو في العادة ممن يقصده بالشَّر من رعاياه: ﴿قَالُواْ لَا تَخَفۡ﴾ لا نقصدك بشرٍّ، نحن ﴿خَصۡمَانِ﴾ فريقان، أو شخصان، كانت بيننا مشاركة في نعاجٍ، واختلفنا فيها بحيث ﴿بَغَىٰ بَعۡضُنَا عَلَىٰ بَعۡضٖ فَٱحۡكُم بَيۡنَنَا بِٱلۡحَقِّ وَلَا تُشۡطِطۡ لا تُجر  وَٱهۡدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَٰطِ﴾ أرشدنا إلى وسط الطريق، فاطمأنَّ وسألهم عن قضيتهم، فقال أحدُهم:﴿إِنَّ هَذَا أَخِي﴾ أي: إسرائيلي مثلي ﴿لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً﴾ حقيقة، لا كناية عن النِّساء كما قيل، ﴿وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا﴾ اجعلني كافلها بأن أضمَّها إلى نعاجي ﴿وَعَزَّنِي﴾ غلبني ﴿فِي الْخِطَابِ﴾ [ص: 23] أي الجدال بقوة منطقِه ﴿قَالَ﴾ داود مصدرًا حكمه بعد موافقةِ الخصم على كلام خصمه، أو ثُبوت البينةِ عليه ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ﴾ ليضمَّها ﴿إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ﴾ الشُّركاء ﴿لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فلا يبغون، والبغيُ الظُّلم، ﴿وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ﴾«ما» لتأكيدِ القِلَّة ﴿وَظَنَّ﴾ أيقن ﴿دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾ ابتليناه بالفزع الذي حصل منه حين تسوَّر الخصوم عليه المحراب، وما كان ينبغي له الفزع من المخلوقِ وهو في حضرة الخالقِ وعبادته ﴿فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ﴾ من فزعه الذي لا يليق بمنصبه ﴿وَخَرَّ رَاكِعًا﴾ ساجدًا ﴿وَأَنَابَ ﴾ رجع إلى الله [ص: 24]

فتبيَّن من سياق القصَّة أنه كانت خصومة بين شركاء في نعاجٍ حقيقة، وأنَّه لم يحصل من داود قبلها ما يستوجبُ لومه أو عقابه، وكل ما حصلَ منه فزعه من الخصوم الذين هبطوا عليه من جهة السَّقف والفزع غريزةٌ بشريةٌ.

فقد قال موسى وهارُون من قبله:﴿قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى﴾ [طه: 45] وما من رسول إلا وقد خاف إذاية قومه، غير أنَّه اعتبر فزعه من المخلوق وهو بين يدي الخالق لا يليق بمنصبه الكريم، وعده ابتلاءً وامتحانًا، فاستغفر الله منه.

ولا أصل لما جاء في الإسرائيليَّات: أنه نظر من طاق بيته فرأى امرأة عريانة تغتسل، فأعجبتُه، فسأل عنها، فقيل له: إنَّها امرأة شخصٍ يقال له: أوريا، فبَعثه إلى الحرب ليُقتل، فانتصر وعاد، فبعثه ثانية، وثالثة، حتَّى قتل، وتزوَّج امرأته، وكان له تسع وتسعون امرأةً.

وقيل: بل كانت خطيبة أوريا، فبعث داوُد يخطبها، ولم يعلم بخطبتها، فآثره أهلها على خطيبها الأول، فزوَّجوها له، وهي أمُّ سليمان، فبعث الله إليه مَلَكيْنِ، في صورة رجلين يختصمانِ في نعاج، كنَّيا بها عن الزَّوجات، فلما قضى لهما صعدا إلى السَّماء، وهما يقولان: قضى الرَّجل على نفسه، فأدرك خطأه وتابَ.

وبعضهم قال في خطأ داود: إنَّه قضى للخصم قبل أن يسمع كلام خصمه، وبعد الحكم أدرك خطأه وتاب، وهذا باطلٌ أيضًا، لأنَّ من البدهيات في القضاء ألا يحكم القاضي إلَّا بعد سماع الخصميْنِ وإبداء حُجَجهما والموازنة بينهما، فكيف يَخْفَى هذا الأمر البدهي على نبيٍّ آتاه الله الملك والحِكْمة وفصل الخطاب؟!

والحاصل: أنَّ ما ذكرناه في فتنة داود عليه السلام، هو الصواب، فتمسَّك به، وانبذ سواه، وبالله التوفيق.

المصدر: "خواطر دينية"

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين