فتنة العلم

 

عجيب أمر هذه النفس وغريب ما تأتي به من أفعال وما ترتكب من أهوال ... فرغم أنها بالضعف موصوفة ، وفي قيود الجهل مقيدة ومرسوفة ، إلا أنها لا تفتأ أن تزهو وتتكبر ، وتعلو وتتجبر ، وترى نفسها أنها أعلى مما يتصور الآخرون وأكبر . 

ومن صور ذلك التجبر ، وألوان ذلك التكبر اغترار المرء بعلمه ، وإعجابه بفهمه، واعتزازه بذكائه وحفظه وثقافته، ولو قرأ قوله تعالى : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ }يوسف76 ، وقوله تعالى : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }الإسراء85 بتدبر وتأمل ، لقصر من غلوه وتعاليه. 

  لمّا صحب سيدنا موسى الخضر ليتعلم منه وركبا في السفينة جاء عصفور فوقف على حرف السفينة ، فنقر في البحر نقرة أو نقرتين ، فقال الخضر : يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقر هذا العصفور في البحر ...

جميع علوم الخلق ومعارفها من الأزل إلى الأبد لايُشكل شيئاً في جنب علم الله ، وما أروع قول الشافعي رحمه الله : 

كلما أدبني الدهـــــــ***ــــــر أراني نقص عقلي

وإذا ما ازددت علماً *** زادني علماً بجهلي

أي مهما تعلمت فإن ذلك يشعرني بالكم الهائل من العلم الذي أجهله  ... إنه لشعور جِدُّ عظيم ... 

    ورغم هذا ينبري الإنسان فيغتر بعلمه ، ويعجب بمعرفته ، كما اغتر إبليس بعلمه فقد كان يسمى طاووس الملائكة يعلمهم أنواع العبادات ومختلف القربات ... فلما أمره الله بالسجود لآدم نظر في عطفيه ، وأعجب بما معه من علم أوصله إلى رئاسة الملائكة ، فأبى السجود ، فكان علمه عليه نقمة وفتنة . 

وكذلك اليهود لما جاءهم ما عرفوا من وصف النبي صلى الله عليه وسلم الذي قرؤوا في التوراة كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وبدلاً من أن يدلهم العلم إلى ما فيه خيرهم صرفهم عنه إلى الخسار والبوار . 

وكذلك فعل أقوام بعض المرسلين لما جاؤوهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وظنوا أنه أصح مما جاءهم به أنبياؤهم وأرجح ، فكان هلاكهم فيما علموا ... 

وكذلك فعل بلعام بن باعوراء الذي قال الله تعالى عنه : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) الآيات من سورة الأعراف .

قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى : (فَانْسَلَخَ مِنْها) أَيْ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ نُزِعَ مِنْهُ الْعِلْمُ الَّذِي كَانَ يَعْلَمُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعِلْمُ عِلْمَانِ : عِلْمٌ فِي الْقَلْبِ فَذَلِكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ ، وَعِلْمٌ عَلَى اللِّسَانِ فَذَلِكَ حُجَّةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ابْنِ آدَمَ ( رواه ابن ابي شيبة في مصنفه وعزاه الدارمي إلى الحسن والبيهقي في الشعب إلى الفضيل ) ، فَهَذَا مِثْلُ علم بلعام وأشباهه، نعوذ بالله منه، ونسأل التَّوْفِيقَ وَالْمَمَاتَ عَلَى التَّحْقِيقِ.

وقال أيضاً : فَدَلَّتِ الْآيَةُ لِمَنْ تَدَبَّرَهَا عَلَى أَلَّا يَغْتَرَّ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ وَلَا بِعِلْمِهِ. إِذْ لَا يَدْرِي بِمَا يُخْتَمُ لَهُ. انتهى كلام القرطبي رحمه الله .

وقال سيد قطب في تفسيره للآية نفسها : كلما أوتي بعض الناس نصيباً من العلم كان خليقاً أن يقوده إلى الحق والهدى، فإذا هو ينسلخ مما أوتي من العلم، فلا ينتفع به شيئاً، ويسير في طريق الضلالة كمن لم يؤتوا من العلم شيئاً. بل يصير أنكد وأضل وأشقى بهذا العلم الذي لم تخالطه بشاشة الإيمان، الذي يحول هذا العلم إلى مشكاة هادية في ظلام الطريق!.

والعلم قد يكون مهلكة حين لا يعمل به ... وفتنة حين لا يوجه صاحبه إلى الحق وتفعيلِه في الحياة أدباً وسلوكاً وعفة وأخلاقاً ، ففي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " أَوَّلُ النَّاسِ يُقْضَى فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأَتَى اللَّهُ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، فَقَالَ لَهُ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِي سَبِيلِكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، فَقَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنْ قَاتَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، ثُمَّ أُمِرَ فَيُسْحَبُ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى النَّارِ، وَأَتَى اللَّهُ بِرَجُلٍ قَدْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا فَقَالَ لَهُ: مَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ فَقَالَ: تَعَلَّمْتُ الْقُرْآنَ وَعَلَّمْتُهُ فِيكَ، وَقَرَأْتُ الْقُرْآنَ، فَقَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ؛ لِيُقَالَ: فُلَانٌ عَالِمٌ، وَفُلَانٌ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، ثُمَّ أُمِرَ فَيُسْحَبُ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى النَّارِ، وَأَتَى بِرَجُلٍ قَدْ أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَالِ كُلِّهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فِيهَا فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ فَقَالَ: مَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيْهَا، فَقَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَيُسْحَبُ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى النَّارِ ". 

وفي البخاري عن أسامة بن زيد قال : سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلاَنُ مَا شَأْنُكَ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ المُنْكَرِ؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَآتِيهِ "...

قال أبو الأسود الدؤلي : 

يا أَيُّها الرَجُلُ المُعَلِّمُ غَيرَهُ      هَلا لِنَفسِكَ كانَ ذا التَعليمُ

تَصِفُ الدَّواءَ لِذي السَّقامِ وَذي الضَّنا      كيما يَصحّ بِهِ وَأَنتَ سَقيمُ

وَتَراكَ تُصلِحُ بالرشادِ عُقولَنا      أَبَداً وَأَنتَ مِن الرَّشادِ عَديمُ

فابدأ بِنَفسِكَ فانهَها عَن غَيِّها      فَإِذا اِنتَهَت عَنهُ فأنتَ حَكيمُ

فَهُناكَ يُقبَلُ ما تَقولُ وَيَهتَدي      بِالقَولِ منك وَينفَعُ التعليمُ

لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتأتيَ مِثلَهُ      عارٌ عَلَيكَ إِذا فعلتَ عَظيمُ

ومن كان علمه عليه نقمة ، ومعارفه في ذاته فتنة لو بقي جاهلاً لكان أفضل له من علم يبعد عن ربه كما قال الإمام الجرجاني صاحب الموازنة : 

أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة *** إذاً فاتباع الجهل قد كان احزما

فالعلم النافع هو العمل بالعلم ... العمل بما يقضي بالتحلي بكل فضيلة ...ابتداء بخشية الله تعالى ، ومروراً باتباع الحق أينما كان ،  وانتهاء بالتواضع للآخرين ... علماء كانوا مثلك أو عامة ، حكى الإمام ابن حزم رحمه الله فقال  : 

ناظرت رجلاً من أصحابنا في مسألة فعلوته فيها لبُكُوء ( مرض خلقي)  كان في لسانه، وانفصل المجلس على أني ظاهر، فلما أتيت منزلي حاك في نفسي منها شيء، فتطلبتها في بعض الكتب فوجدت برهاناً صحيحاً يبين بطلان قولي وصحة قول خصمي، وكان معي أحد أصحابنا ممن شهد ذلك المجلس فعرفته بذلك، ثم رآني قد علَّمت على المكان من الكتاب، فقال لي : ما تريد؟ ، فقلت: أريد حمل هذا الكتاب وعرضه على فلان ، وإعلامه بأنه المحق وأني كنت المبطل وأني راجع  إلى قوله ، فهجم عليه من ذلك أمر مُبهِت ، وقال لي: وتسمح نفسك بهذا! فقلت له: نعم، ولو أمكنني ذلك في وقتي هذا لما أخرته إلى غد.

ثم عقَّب فقال : واعلم أن مثل هذا الفعل يكسبك أجمل الذكر مع تحليك بالإنصاف الذي لا شيء يعدله. ولا يكن غرضك أن توهم نفسك أنك غالب، أو توهم من حضرك ممن يغتر بك ويثق بحكمك أنك غالب، وأنت بالحقيقة مغلوب، فتكون خسيساً وضيعاً جداً ، وسخيفاً ألبتة ، وساقط الهمة ، وبمنزلة من يوهم نفسه أنه ملك مطاع وهو شقي منحوس، أو في نصاب من يقال له : إنك أبيض مليح ، وهو أسود مشوه، فيحصل مسخرة ومهزأة عند أهل العقول الذين قضاؤهم هو الحق .

فاحرص – أخي طالب العلم - على علم يورثك الخشية من الله والتواضع للناس ، قال الفقيه الشافعي ابن رسلان في متن الزُبَد : 

فاعمل وَلَو بالعُشْر كَالزَّكَاةِ ***  تخرجْ بِنور الْعلم من ظلمات

فعالم بِعِلْمِهِ لم يعملنْ *** معذب من قبل عباد الوثن

  فاللهم رحمتك ... وعفوك ... وهدايتك إيانا إلى الحق والخير والصواب ... إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين