فتح مكة -9

 

الدكتور عثمان قدري مكانسي

لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، واطمأن الناس ، خرج حتى جاء البيت ، فطاف به سبعاً على راحلته ، يستلم الركن بمحجم في يده ؛ فلما قضى طوافه ، دعا عثمان بن طلحة ، فأخذ منه مفتاح الكعبة ، ففتحت له ، فدخلها ، فوجد فيها حمامة من عيدان ، فكسرها بيده ثم طرحها ، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكَفَّ( اجتمع) له الناسُ في المسجد ‏،

فقال ‏:‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا ، ففيه الدية مغلظة ، مائة من الإبل ، أربعون منها في بطونها أولادها ‏.‏

يا معشر قريش ، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية ، وتعظمها بالآباء ، الناس من آدم ، وآدم من تراب ، ثم تلا هذه الآية ‏:‏ ‏(‏ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ‏)‏ ‏.‏‏.‏‏.‏ الآية كلها ‏.‏

ثم قال ‏:‏ يا معشر قريش ، ما ترون أني فاعل فيكم ‏؟‏ قالوا ‏:‏ خيراً أخ كريم ، وابن أخ كريم ، قال ‏:‏ اذهبوا فأنتم الطلقاء ‏.‏

إقرار أمر السدانة لعثمان بن طلحة ‏:

ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده ، فقال ‏:‏ يا رسول الله ، اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أين عثمان بن طلحة ‏؟‏ فدعي له ، فقال ‏:‏ هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم بر ووفاء ‏.‏

طمسه صلى الله عليه وسلم ما كان في الكعبة من الصور ‏:

لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت يوم الفتح ، فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم ، فرأى إبراهيم عليه السلام مصورا في يده الأزلام يستقسم بها ، فقال ‏:‏ قاتلهم الله ، جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام ، ما شأن إبراهيم والأزلام ‏!‏ ‏( ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنفياً مسلماً ، وما كان من المشركين ‏)‏ ‏.‏ ثم أمر بتلك الصور كلها فطمست ‏.‏

إسلام عتاب والحارث بن هشام وسببه ‏:

دخل الكعبة عام الفتح ومعه بلال ، فأمره أن يؤذن ، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة ، فقال عتاب بن أسيد ‏:‏ لقد أكرم الله أسيداً ألا يكون سمع هذا ، فيسمع منه ما يغيظه ‏.‏ فقال الحارث بن هشام ‏:‏ أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته ، فقال أبو سفيان ‏:‏ لا أقول شيئاً ، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى ، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏:‏ قد علمت الذي قلتم ، ثم ذكر ذلك لهم ؛ فقال الحارث وعتاب ‏:‏ نشهد أنك رسول الله ، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا ، فنقول أخبرك ‏.‏

 

إضاءة:

1ـ المسجد للمسلم رَوح وريحان ، وأمن وأمان، ، بيت الله يؤمه المسلمون خمس مرات في اليوم ويقفون بين يديه سبحانه يصلون مجتمعين يرجون ثوابه ويخافون عقابه يسألونه الهدى والتقى والعفاف والغنى، فالمسجد عنوان وحدة المسلمين، ودليل التزامهم بهذا الدين العظيم والصلاة ثاني أركان الإسلام وإذا قُبلت قُبل ما بعدها.

كان صلى الله عليه وسلم إذا عاد إلى المدينة من غزوة أو سرية أو دعوة يمّم وجهه نحو مسجده فصلى فيه ركعتين قبل أن ينطلق إلى أبياته ، ومن سنن الحجّ أن يقف الحاجّ في مسجد حيّه - حين يعود من حجه-  يستقبل مهنّئيه بالحج ويدعو لهم فدعاؤه قبل دخوله بيته مقبول ، فإن دخل بيته كان كبقية الناس.

3 ـ تحية المسجد أن تصلي فيه ركعتين إلا المسجد الحرام فتحيّته الطواف حول الكعبة سبعة أشواط ، وهذا ما فعله الحبيب المصطفى لما اطمأنّ الناس ودخلت مكة في دين الله وأسلم أهلها أمرَهم لله ورسوله.

4 ـ كانت سدانة البيت في الجاهلية لبني شيبة فلما فتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عثمان بن طلحة وأخذ منه المفتاح ، فرغب فيها علي بن ابي طالب وسأل رسول الله أن يجمعها لبني هاشم مع السقاية التي كانت لهم لكن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن دخل الكعبة وصلى داخلها ركعتين وخرج للناس أعاد المفتاح لآل شيبة ممثلين بكبيرهم عثمان ابن طلحة وأعلن أن هذا اليوم الأغرّ يوم خير وبركة وبِرٍّ ووفاء. وهو – صلى الله عليه وسلم يعلّمنا أن الحاكم لا ينبغي له أن يستأثر بالمفاخر ولا ينسب لنفسه وآله المكارم كلها – وهو سيد البشر وقمة المكارم -  كما يعلمنا صلى الله عليه وسلم كيف نتألّف القلوب ونكسب ود الأعداء والأصدقاء على حد سواء بوضع الأمور في نصابها والحفاظ على مكانة الآخرين وشرفهم.

5 ـ روى ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "  إنَّ أشدَّ النَّاسِ عذابًا عندَ اللَّهِ يومَ القيامةِ المصوِّرونَ" فهم يضاهئون فعل الله تعالى ويُقال لهم " أحيوا ما خلقتم" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذْ رأى حمامة من عيدان في البيت  كسرها بيده ثم رماها، ثم أمر بطمس الصور ،فالمساجد لله تعالى وحده . وترى كثيراً من المسلمين يترخّصون بوضع التماثيل في بيوتهم يقلدون غيرهم عن جهل وبُعد عن فهم الدين والتزامه .

6 ـ اجتمع الناس أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمعون ما يقرر في أمر مكة وأهلها الذين ناصبوه العداء ثلاثة عشر عاماً وهو فيهم، وثمانية أعوام وهو مهاجر إلى المدينة ،ما فتئوا يكيدون له ويمكرون به ويحاربونه ويحاولون وأد هذا الدين العظيم " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليُثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" لكنّ الداعية يغفر ويعفو ، ويسامح وينسى أذاهم ، إنه حين يظفر بهم يحمد الله تعالى أنْ مكّنه منهم ليهديهم به إلى الطريق المستقيم والنور القويم ، ومثاله الساطع قول الله تعالى ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ، ادفع بالتي هي أحسن ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم ، وما يُلقّاها إلا الذين صبروا ، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم).

7 ـ قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما تظنون أني فاعل بكم؟" وماذا يفعل الكريم إذْ ظفر بأعدائه فذلوا له وأذعنوا ؟ إنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، لكنه الجحود والاستكبار منعهم من الإيمان به .. والآن يقرون بفضله وكرمه ونبل أخلاقه: (أخ كريم وابن أخ كريم.) أفيعاقبهم ويقتص منهم ؟! كلا إنهم يعطيهم أبلغ درس في الغفران والعفو ( اذهبوا فأنتم الطلقاء العُتقاء) فتسري في مكة الفرحةُ العارمة بين الناس ويُقبلون على دين الله أفواجاً.

8 ـ أما النصر فإنه من الله ( وما النصر إلا من عند الله ، إن الله عزيز حكيم) ورسول الله أول من يُقرُّ بهذا فيصدح على سمع البرية كلها بتعظيم الله وردّ الفضل له سبحانه" لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده" فهو الله الواحد الأحد ، الفرد الصمد، لا شريك له ولا ولد ، صدق اللهُ رسولَه إذ وعده بالنصر فحققه وكان له الفضل أولاً وآخراً، وما المسلمون وهم يقاتلون إلا أداة لإحراز النصر الإلهي ( فلم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم ، وما رميتَ إذ رميتَ ولكنّ الله رمى) فلا ينسبَنّ أحد الفضل لنفسه ، كلُّ شيء بأمر الله تعالى والسعيد من عرف هذا وعمل له وسلّم أمره لمولاه..

9 ـ ويقِرّ الحبيب الرسول جملة من التشريعات المناسبة ويغرس فسائل الحق والخير لتكون في قابل الأيام أشجاراً باسقة وظلالاً وارفة للمجتمعات الإسلامية على مر الدهور وكرّ العصور.

أ‌-       فلا تسابق بين المسلمين  إلا بالعمل الصالح.

ب‌-  الناس سواسية ، لا فضل لأحد على الآخر إلا بالتقوى. يدخل الرسول الكعبة ومعه بلال بن رباح رضي الله عنه – وما أدراك ما بلال- ثم يرتقي بلال ظهر الكعبة ويصدح بالأذان فتنتشي بطاح مكة وبيوتاتها وجبالها بصوته العذب يرطّبُ أنداءَها ويعلن راية التوحيد فيها.

ت‌-  ما تعارف عليه الناس في الجاهلية موضوع إلا ما جمعهم على الخير( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).فألغى ما خالف الشرع وثبّتَ ما وافقه.

10ـ تأييد الله لرسوله واضح في سيرته ودعوته صلى الله عليه وسلم ، إن الله تعالى يؤيد الدعاة ما أخلصوا وكان عملهم لله وحده، وقصة عتاب بن أُسيد والحارث بن هشام وسفيان بن حرب مثال واضح على ذلك ، فأولهم مشرك لم يدخل الإيمان قلبه ، وثانيهم يبحث عن الحق ولمّا يصلْ إليه ، وثالثهم أسلم وكان إسلامه إذ ذاك رقيقاً . ويخبر جبريلُ عليه السلام رسولَ الله بما جرى بينهم من حديث ، فيخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدّثهم بما قالوا دون تقريع ولا تانيب، لكنه مسَّ شَغاف قلوبهم ، فيزداد الثالثُ إيماناً، ويُسلم الآخران ويحسن إسلامهما .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين