ما مرّ على المسلمين شهر رمضان المبارك، إلا مرت عليهم في أفيائه الطهور ذكريات غالية أثيرة، ففي رمضان كان يوم بدر، وفي رمضان أيضاً كان فتح مكة المكرمة.
خرج المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة مع جنوده الأوفياء حين عدا رجال من بني بكر وهم حلفاء قريش؛ على أناس من بني خزاعة وهم حلفاء المسلمين، فغدروا بهم وقتلوهم، فرحل عمرو بن سالم إلى المدينة المنورة، وأنشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله:
يا ربِّ إني ناشدٌ محمدا=حِلفَ أبينا وأبيهِ الأتلدا
إنَّ قريشاً أخلفوكَ الموعدا=ونقضوا ميثاقكَ المُؤكدا
هُم بيّتونا بالوتيرِ هُجَّداً=وقتلونا رُكَّعاً وسُجَّدا
وزعموا أنْ لستُ أدعو أحداً=وهُمْ أذلُّ وأقلُّ عددا
فانصرْ هداكَ الله نصراً أيِّدا=وادعُ عبادَ اللهِ يأتوا مددا
وأجاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمرواً بقوله: نُصِرْتَ يا عمرو بن سالم!.. ثم كان الخروج إلى مكة المكرمة.
وأحسَّ بنو بكر بعِظم الجناية، وشعرت قريش بفداحة ما فعله حلفاؤها، فحاولت أن تتدارك الموقف، وكان لأبي سفيان جهد متصل وحركة ناشطة، لكنه عاد بالخذلان.
بني بكرٍ وما يُغْني المَلامُ=تَلَظَّى البأسُ وانتفضَ الحسامُ(1)
ذِمامٌ صادقٌ ودمٌ حرامٌ=وعِزٌّ من خزاعةَ لا يُرامُ
يقومُ عليهِ حامٍ لا ينامُ
أعانكمُ الأُلى نبذوا الوفاءَ=وراحَ القومُ يمشونَ الضَّراءَ
وما تَخفى جريرةُ مَنْ أساءَ=سيوفُ محمدٍ جُعِلَتْ جَزاءَ
فما البَغْيُ الذميمُ وما العُرامُ
قَتلتُمْ من خزاعةَ بالوَتيرِ=رجالاً ما أتاهمْ منْ نذيرِ
لبئسَ الغدرُ من خلقٍ نكير=ويا لَلناسِ للحدثِ الكبيرِ
أكانَ محمدٌ مِمّن يُضامُ
أَتَوْهُ يَنْشدونَ الحِلْفَ وفدا=تَهُدُّ شَكاتُهُ الأحرارَ هَدَّا
فأيَّدَهُمْ وسارعَ واستعدّا=وراحَ يسوقُهُ للحربِ جندا
تُظَلِّلُهُ الملائكةُ الكرامُ
وحينَ جاء أبو سفيان إلى المدينة المنورة ليجدد العهد ويزيدَ في المدة لم يُوَفَّق لشيءٍ قط، وانطلق محزوناً مهموماً تتقاذفهُ شوارعُ المدينةِ الكريمة، فالرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم لم يَرُدَّ عليه بشيءٍ قط، والصحابةُ الكرام الذين لجأ إليهم ليساعدوه فيما يؤمل أخلفوا ظَنَّه الواهم، فهو حائرٌ مرهق، مضطربُ الخُطا، زائغُ النظر، أنَّى لكَ النجاةُ أبا سفيان مما أنتَ غارقٌ فيه وقد عزمَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصمّم!؟
أبا سفيانَ ذلك ما تراهُ=هو البأسُ المصمِّمُ لا سواهُ
أليسَ الحِلفُ قد وهنتْ عُراهُ=فكيفَ تشُدُّ بعدئذٍ قُواهُ
أبا سفيانَ ليسَ لكم ذِمامُ
كتمتَ الحقَّ تطمعُ في المُحالِ=فما بالُ الثِّقاتِ من الرجالِ
فتحتُمْ بالأذى بابَ القتالِ=فما دونَ اللقاءِ سوى ليالِ
ويَفْتَحُ مكةَ الجيشُ اللُّهامُ
دعِ الأرحامَ ليسَ لكمْ شفيعُ=لقد حاولتَ ما لا تستطيعُ
رُويدَكَ إنه الرأيُ الجميعُ=وإنَّ اللهَ ليسَ لهُ قريعُ
تعالى جَدُّهُ وسما المقامُ
عاد أبو سفيان من رحلته إلى المدينة المنورة، وطيفُ الإخفاقِ بادٍ على وجهه المُتْعَبِ المكدود، وهو بفطنته ومعرفته يعلمُ جيداً أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا بد صانعٌ شيئاً، لكن ما هو هذا الشيءُ يا ترى؟ أين وِجْهَتُه؟ ما هي أبعادهُ وأمداؤُه؟ متى يكون توقيتُه؟ إنَّ شيئاً من هذا لم يكن يعرفه أبو سفيان قط، وأنَّى له أن يعرفَه والرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم كَتومٌ حازم، بعيدُ النظر، شديدُ الحَيْطَة، بالغُ الدقةِ فيما يفعل!؟
إذن؛.. فقد عُدْتَ يا أبا سفيان خاويَ الوِفاض، ليس في كِنانتِكَ إلا ما تتوقعه من خطوبٍ جسام، عدتَ مُتعَباً مُزعَجاً لا تدري كيف تقودُ قريشاً وأنتَ سيُّدها، ذلك أنك ترى صولَتها تَذْبُلُ يوماً بعدَ يوم، وشجرتَها تجفُّ وتُصوِّح، أما دولةُ الإسلام فهي تنمو وتَعْظُم، وأما شجرةُ الإيمان فهي تسمو وتَخْضَوْضِر:
رجعتَ وأسْكتتكَ الحادثاتُ=فسِرْتَ تقولُ هل قَدِمَ الغُزاةُ
نعمْ قَدِمَ الميامينُ الهُداةُ=وتلكَ جيادُهمْ والمُرهَفاتُ
فدعْ دِينَ الغُواةِ وقلْ سلامُ
وفي مَرِّ الظهرانِ ذُهِلَ أبو سفيان حينَ شاهدَ نيرانَ الجيشِ المسلم يقوده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متجهاً لفتح مكة. كانت هناك عشرةُ آلافِ نارٍ أمرَ النبيُّ الكريم عليه الصلاة والسلام بإيقادِها لتعلمَ قريشٌ قوة المسلمين وبأسَهم فتنهدَّ عزائمها وتستكينَ وتستخذي:
أبا سفيانَ هل أبصرتَ نارا=كنارِ القومِ إذ باتوا سُهارى
أَبَتْ وأَبوْا فما تَأْلو استعارا=ولا تُحصى وإن عُدَّتْ مِرارا
هو الفزعُ المؤجَّجُ لا الضِرامُ
لقد أنذرتَ قومَكَ فاستطاروا=وراحوا ما يَقِرُّ لهم قرارُ
نَبَتْ بهمُ المنازلُ والديارُ=وضاقَ سبيلُهمْ فيها فحاروا
وقالَ سَراتُهم: خَطْبٌ جِسامُ
ودخل الجيش المسلم مكة المكرمة فاتحاً منصوراً، ولم تكن لقريشٍ إلا مقاومةٌ بائسةٌ يائسة ما أسرعَ ما انتهت!.. وعفا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم عنها وهي التي آذته وحاربته، عفا عنها أكرمَ عفوٍ وأشرفَه وأنبلَه، عفا عفوَ القادرِ المتمكن، الغالبِ المنتصر، عفا وهو ينظر إلى البيتِ الحرام وقد تمَّ تطهيرُه من أدناسِ الشركِ والوثنية، عفا حينَ قالَ لأهلِ مكة المكرمة وهم مأخوذون مذهولون: اذهبوا فأنتم الطُلقاء.
وأرسلَ الصرخةَ الزهراءَ فانطلقت=كتائبُ اللهِ ترعى البيتَ والحرَما
فما هوى صارمٌ إلّا رمى عُنُقاً=ولا هوى مِعْوَلٌ إلّا رمى صَنَما
ولا بَدَتْ سِدَّةٌ إلا تَسَنَّمها=مُؤَذِّنٌ لم يَدعْ في مَسْمَعٍ صَمَما
فتابَ مَنْ لم يكنْ باللهِ معتقداً=وثابَ منْ لم يكنْ باللهِ معتصِما
وأقبلت سَرواتُ العُرْبِ خاشعةً=تجلو بإيمانِها عن دينِها التُهما
وتحملُ الشُّهْبَ في راحاتِها قُضُباً=والخيلُ تَعْلِكُ في أشداقِها اللُّجُما
وأحمدٌ يتلقّاها وبَسْمَتُهُ=تَرُدُّ كلَّ فمٍ للمجدِ مُبْتَسِما
والفتحُ يغمِزُها حتى إذا وثبَت=لم تُبْقِ في الشرك لا عُرْباً ولا عجما(2)
تم الفتح وانهارت دولة الشرك والوثنية، وصارت مكة المكرمة حصناً للإسلام، فَعَلا فيه الأذان، وتُلِيَ فيها القرآن، وتَمكَّن من أعماقها الإيمان.
يا ذكرى الفتح الأعظم!.. مرحباً بأنسامك الندية العاطرة، مرحباً بريّاك التي يُضمِّخها الشذى والطيب والعرار، مرحباً بك اليوم وأمتنا تخوض جهادها المتصل ضد أعداء الله من اليهود وتلاميذ اليهود، ومن الصليبيين والملاحدة.
أنتَ قَبَسٌ يضيء في الحوالك، وعزيمةٌ تتقدُ في القلوب، وتيارٌ يسري في الضمائرِ والأخلاد، فيشدّ عليها، ويقوّي أزرها، ويبشرها بيوم النصر القريب.
*****
(1) للشاعر أحمد محرم، في ديوانه: مجد الإسلام.
(2) للشاعر عمر أبو ريشة.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول