إن ثبات المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في «صلح الحديبية» كان مبشراً لفتح -خيبر. ثمَّ أخبر سبحانه عن رضاه عن المؤمنين بدخولهم تحت البيعة لرسوله؛ وأنه سبحانه علم ما في قلوبهم حينئذ من الصّدق والوفاء؛ وكمال الانقياد؛ والطاعة: وإيثار الله ورسوله على ما سواف فأنزل الله السكينة والطَمأنينة والرّضا في قلوبهم، وأثابهم على الرْضا بحكمه والصبر لأمره فتحاً قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها، وكان أوّلُ الفتح والمغانم فتح خَيْبَر ومغانمها؛ ثم استمرت الفتوح والمغانم إلى انقضاء الدهر.
ووعدهم سبحانه مغانم كثيرة يأخذونها؛ وأخبرهم أنه عجَّل لهم هذه الغنيمة وفيها قولان؛ أحدهما: أنه الصلح الذي جرى بينهم وبين عدوهم. والثاني: أنها فتحُ خيبر وغنائمها؛ ثم قال: {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} [الفتح: 20] فقيل: أيدي أهل مكة أن يقاتلوهم: وقيل: أيدي اليهود حين همُّوا بأن يغتالوا مَنْ بالمدينة بعد خروج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بمن معه من الصحابة منها. وقيل: هم أهل خيبر وحلفاؤهم الذين أرادوا نصرهم من أسد وغطفان. والصحيح تناول الآية للجميع.
وقوله: {وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ}[الفتح: 20] قيل: هذه الفعلة التي فعلها بكم وهي كفُّ أعدائكم عنكم مع كثرتهم: فَإنّهُم حينئذ كان أهل مكة
ومن حولها، وأسدٌ وغَطّفان وجمهور قبائل العرب أعداء لهم وهم بينهم كالشامّة: فلم يصلوا إليهم بسوء: فمن آيات الله كفُّ أيدي أعدائهم عنهم: فلم يصلوا إليهم بسوء مع كثرتهم، وشدة عداوتهم: وتولى حراستهم، وحفظهم في مشهدهم ومغيبهم.
وقيل: هي فتح خيبر جعلها آية لعباده المؤمنين: وعلامة على ما بعدها من الفتوح فإن الله سبحانه وعدهم مغانم كثيرة وفتوحاً عظيمة: فعجّل لهم فتح خيبر؛ وجعلها آية لما بعدها وجزاء لصبرهم ورضاهم يوم الحديبية وشكراناً ولهذا خصّ بها وبغنائمها مَنْ شهد الحديبية.
ثم قال: {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [الفتح: 20] فجمع لهم إلى النصر والظَّفر والغنائم والهداية فجعلهم مهديّين منصورين غانمين؛ ثم وعدهم مغانم: كثيرة وفتوحاً أخرى، لم يكونوا ذلك الوقت قادرين عليها. فقيل: هي مكة، وقيل: هي فارس والروم، وقيل: الفتوح التي بعد خيبر من مشارق الأرض ومغاربها(1).
عبر ودروس:
1 - إن صدق الصحابة رضي اللّه عنهم في بيعتهم لرسول الله صلى اللّه عليه وسلم في صلح الحديبية ورضوان الله عليهم هيأ لهم الدعوة إلى الله تعالى والانتشار بين القبائل؛ فكانوا كالنور في الظلام: وكالأحياء بين الأموات؛ مما كان له الأشر في دعوة الناس إلى الإسلام؛ حيث دخل الناس في دين الله أفواجاً.
2- إن الصدق مع الله تعالى والوفاء له وكمال الانقياد له سبحانه والطاعة: وإيثار اللّه ورسوله على ما سواه والصبر لأمره؛ كل ذلك كان مفتاحاً لأول الفتح والمغانم وهو فتح خيبر.
3- إن الله تعالىٍ قادرٌ على أن يصرف الأعداء عن أوليائه، وإن كثر الأعداء وتنوَّعوا وتحزَّبوا حيث كفُّ الأعداء آية من آيات الله تعالى.
4- إن الله تعالى يصنع لعباده نصراً وفتحاً عندما يعلم ما في قلوبهم من صدق العزم للجهاد في سبيل الله وإخلاص العبودية لله وحده بل ويتولى سبحانه حراستهم وحفظهم وإعانتهم.
5- إن تحرك المسلمين تجاه عدوهم مجاهدين صابرين صادقين مخلصين محتسبين يجعل جهادهم مباركاً ولو كانوا قلة؛ بل ويعطيهم من الفتح والنصر والغنيمة من حيث لم يحتسبوا.
6- تحركات المجاهدين الصادقين لاسترجاع أرضهم ومقدساتهم المحتلة والمسلوبة سيبارك الله فيها وإن كانت محدودة؛ كما كانت تحركات المسلمين الجهادية قبل فتح خيبر، فقد بارك الله فيها وعظّمها حتى غدتْ فتحا مبيناً.
وهذه عادة الله سبحانه في الأمور العظام التي يقضيها قدراً وشرعاً: أن يُوطَّئ لها بين يديها مقدمات وتوطئات، تُؤذنُ بها وتدُلُّ عليها(2).
فأبشروا إخواني المجاهدين في فلسطين بالفتح المبين القادم من عند الله العزيز القهار.
ولنا وقفاتنا القادمة بإذن الله تعالى في ظلال خيبر. والحمد لله رب العالمين.
(1) ابن قيم الجوزية زاد المعاد.
(2) المرجع السابق.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول