فتح الجيش العثماني بقيادة سنان باشا الحصن الإسباني الأخير في حلق الوادي بتونس

 

حدث في الخامس والعشرين من جمادى الأولى 982

 

في الخامس والعشرين من جمادى الأولى من سنة 982= 13/9/1574 فتح الجيش العثماني بقيادة سنان باشا الحصن الإسباني الأخير في حلق الوادي بتونس، وبذلك قضى على الوجود الإسباني في ربوع تونس وشمال إفريقيا، وأنهى الدولة الحفصية التي حكمت تونس منذ سنة 1230، وأسس للوجود العثماني الذي سيدوم في تونس قرابة 350 سنة.

 

وكانت إسبانيا بعد سقوط دولة غرناطة المسلمة في عهد إيزابيلا وفرديناند قد بدأت ما يسمى بالفتح الإسباني، والذي كان أول أهدافه : احتلال سواحل شمال إفريقيا، وبخاصة أن كثيراً من مسلمي إسبانيا كانوا قد بدأوا من موانئ هذه السواحل بالجهاد ضد إسبانيا التي أخرجتهم من ديارهم، فشنوا الغارات على السفن الإسبانية في البحر المتوسط وعلى البر الإسباني كذلك وعادوا بالغنائم والأسرى.

 

وكانت لدى إسبانيا دوافعها السياسية والدينية لاحتلال سواحل المغرب العربي والهيمنة على البحر المتوسط، وكانت سياسات الملك فيليب الثاني الذي حكمها من سنة 1556 حتى سنة 1598 امتداداً لسياسات سابقيه، وكانت إسبانيا في تلك الحقبة الدولة الأقوى في أوروبا، وتهيمن كذلك على إيطاليا، وعيَّن الملك على نابولي وصقلية ولاة إسبانيين من قشتالة التي نشأ فيها، ولذا كان من الطبيعي لدولة استعمارية أن تتطلع إلى السيطرة على الحركة البحرية في البحر المتوسط، وبخاصة تونس التي لا تبعد كثيراً عن السواحل الإيطالية، وكانت إسبانيا قد سيطرت من قبل على سواحل الجزائر وبخاصة مناطق المرافئ مثل وهران والمرسى الكبير ومليلة.

 

وكانت إسبانيا كذلك أقوى دولة استعمارية في البحار بفضل أسطولها القوي، وكانت تستعمر بلاداً كثيرة في أمريكا الجنوبية أمدت خزينتها بالذهب والفضة بما يمكنها من شنِّ الحروب التي تمكن لتوسعها وامتداد نفوذها، وكانت إسبانيا تعتبر نفسها الدولة الكاثوليكية الأولى، وأن عليها نشر الكاثوليكية في العالم، ولذا فقد اجتثت الوجود الإسلامي في الأندلس، واحتلت هولندا البروتستانتية، واضطهدت أهلها وذبحتهم، ودمَّرت حضارات أمريكا الجنوبية، وأجبرت أهليها على اعتناق الكاثوليكية، وفي المقابل كان السلطان العثماني أقوى دولة برية في ذلك الوقت، وحامي حمى الإسلام وخادم الحرمين الشريفين، وهكذا كانت الدولة العثمانية والإمبراطورية الإسبانية تتصارعان من منظور واحد؛ وهو الحرب بين الكاثوليكية وبين الإسلام.

 

ويعود الوجود الإسباني في تونس الحفصية إلى ما قبل 40 سنة، وإلى أيام الملك الحسن بن محمد، الذي بويع بعد وفاة أبيه في سنة 932، وسار في الناس سيرة حسنة في أول أمره، ثم تغير إلى اللهو والفجورـ فاضطربت أموره وبدأ المدن التونسية تخرج عن طاعته، فدخلت صفاقس في طاعة درغوت باشا أمير طرابلس العثماني، ولحقتها القيروان فاستنجدت به من جور الحفصي وولاته.

 

وكان السلطان سليمان القانوني قد بدأ في بسط سلطان الدولة العثمانية على السواحل المسلمة في شمال أفريقيا بعد أن أنشأ عليها الإسبان والفرنسيون مراسي وحصون، وكان تنفيذ هذه السياسة في عهدة أمير البحر خير الدين بربروسا الذي جعل الجزائر قاعدة له، ولذا عرف بالجزائرلي، فلما جرت هذه الاضطرابات في تونس جاء خير الدين بربروس، وألقى أسطوله مراسيه في تونس في سنة 935=1529، فهرب الحسن الحفصي، ودخلها خير الدين دون قتال، وجمع الحسن الحفصي الأعراب وقاتل بهم خير الدين، فهزمهم واستسلموا، وفر الحسن إلى إسبانيا، وكان ملكها الحالي شارل الخامس يعتبر نفسه زعيم المعسكر المسيحي الذي سيتصدى للمسلمين، فاتفق مع الحسن الحفصي على أن يدعمه بعسكره ويعيده إلى عرشه، على أن يعطي الحسن إسبانيا مدينة عنابة وبنزرت والمهدية.

 

وإلى جانب ذلك تضمن الاتفاق السماح للإسبان بسكنى جميع أنحاء تونس، وإقامة طقوسهم الدّينية دون أن يتعرّض لهم أحد، وأن يدفع السلطان سنويا لهم 12.000 دوقة، وإطلاق سراح جميع الأسرى المسيحيّين الموجودين بتونس، وأن يقدم الحسن لشارلكان 12 حصانا و12 مهرا كل عام، وتضمن شرطاً جزائياً فحواه أنه إذا تخلّف السلطان عن أيّ شرط يدفع 50 ألف دوقة وفي المرة الثانية 100ألف دوقة، وفي المرة الثالثة تؤخذ البلاد منه، وتضمن كذلك ألا يدخل السلطان إلى تونس أحداً من مهاجري الأندلس يهوديا كان أو مسلما.

 

وعاد الحسن الحفصي إلى تونس في سنة 941=1535 مع أسطول ضخم أعده شارل الخامس تكون من 500 سفينة و30.000 جندي، وحيث لم تكن لدى خير الدين القوات الكافية لمواجهة هذا الجيش العرمرم، انسحب إلى الجزائر، ودخل الحسن الحفصي تونس، يصحبه قائد إسباني اسمه جوان، فلم يكن يستقر حتى استباح الإسبان تونس، وفتكوا بأهلها حتى قيل : إن قتلاهم بلغوا ستين ألفا، وهم ثلث سكان تونس في ذلك العهد، وكانت تلك مأساة جديدة لحقت بمسلمي الأندلس الذين هاجروا منها إلى تونس في سنة 897=1492، وجرى ذلك بمرأى من الحسن الحفصي الذي فوجئ بما جرى ولم يحرك ساكناً.

 

وبقي الحسن خاضعاً للإسبانيين، وحيث لم يستطع أن يعطيهم المهدية التي احتلها العثمانيون، طلبوا منه التعاون مع فرسان القديس يوحنا فانتقض عليه أهل القيروان، فخرج لإخضاعهم، ولما عاد وجد ابنه أحمد بن الحسن قد جاء من إمارته في عِنّابة إلى تونس واستولى عليها وبايعه أهلها، فقاتله الإسبانيون والحسن معهم، فظفر أحمد، وقبض على أبيه، فسمل عيناه، ففر إلى القيروان، فهلك فيها، وبنى الإسبان حصناً بحرياً ضخماً على ميناء حلق الوادي في تونس، وتركوا فيه حامية من 2000 جندي، وصار الميناء أهم قاعدة لأسطولهم على الساحل.

 

قال المؤرخ التونسي محمد مقديش المتوفى سنة 1228 في كتابه "نزهة الأنظار في عجائب التواريخ والأخبار"، يصف القاعدة البحرية الإسبانية في حلق الوادي والحصون الملحقة بها: فمن أعظم بناءاتهم حصار حلق الوادي والبرج المقارب له، والثالث البستيون خارج باب البحر، أما الحصار فهو بناء عظيم كالمدينة مربع، وعلى أركانه الأربع أربعة أبراج في غاية الضخامة على كل ركن برج، والبحر من جنوبيها والبحيرة من الغرب، وحفروا حفيرا عميق الماء بينهما حتى أحاط الماء من جميع الجهات، وعند مجتمع البحر والبحيرة البرج، وتدخل سفنهم على هذا الحصن الأعظم، فترسي عند بابه، وعمق الخليج ستون ذراعا، وقعره متصل بالبحر، وخارج الحصن دور يسكنها المنافقون، وقدرها أزيد من مئتي دار، والخندق والبحر محيط بالجميع، ونقبوا تحت الأرض نقبا طويلا يتصل إلى البرج الخارج عن الحصن، وبين الحصن والدور سور يمنع من يريدهم بسوء، وعرض سور الحصن يسير عليه سبعة من الخيل من غير مضايقة ولا مزاحمة، وهو ذو وجهين خارج وداخل بحجارة ضخمة اقتطعوها من الحنايا التي مر وصفها، وما بين وجهي السور حشو الجير إفراغا مع دقيق الحصباء كي يعسر نقبه، ولا تعمل فيه الآلات من البونبات والألغام والمدافع، وجعلوا كنيستهم وسطه ودواميس المياه المحكمة بأتقن الصنع، وأقاموا في بنائه ثلاثا وأربعين سنة لم يخل يوم فيها من التحصين، وأما البستيون فكان خارج باب البحر قرب كنيسة النصارى، وكان أشد ضررا على أهل تونس من غيره لأنهم أرادوا أن يبنوا فيه حصارا ومدينة وقد ابتدؤوها، وفصلوا شوارعها وأسواقها، وكادت أن تسكن لولا لطف الله ومعالجة العساكر العثمانية، والذي تم لهم منه قلعة واحدة، فكانت الحرب عليها لما دخلت العساكر العثمانية.

 

وفي سنة 974=1566 توفي السلطان سليمان القانوني، وتولى الحكم ابنه السلطان سليم الثاني، وعمره 42 سنة، وشهد عهده توسع السيطرة العثمانية على نواح البحر المتوسط، وقد تمكن سليم الثاني من تفريغ قواته وجهود دولته لذلك، لأنه وقع معاهدة سلام مع النمسا في سنة 1568، ونتيجة لها هدأت الأوضاع في مولدافيا والأفلاخ، رومانيا اليوم، وكذلك كانت العلاقات مع الشاه طهماسب في إيران مستقرة وخالية من الحروب.

 

وكانت أول إنجاز كبير لقوات السلطان سليم الثاني فتحها لجزيرة قبرص في سنة 1570-1571 بعد أن بقيت في يد جمهورية البندقية أكثر من 80 سنة، وعلى إثر سقوط قبرص، شكلت بعض الدول الأوربية برعاية البابا الحلف المقدس الذي دمر الأسطول العثماني في ليبانتو في أكتوبر 1571، وهو انتصار لم يستطع القضاء على الوجود والتوسع العثماني، وهو الأمر الذي أدركته البندقية وتعاملت معه تعاملاً منطقياً، فاعترفت بالسيطرة العثمانية على المتوسط، ووقعت مع العثمانيين اتفاقيات لتسهيل حركة أساطيلها التجارية، فأنهت التحالف من الناحية العملية.

 

وحكم أحمد الحفصي تونس قرابة 25 سنة، وزاد تسلط الإسبان وعتوهم بمرور السنين، وصارت لهم عصابات تؤيدهم من الأعراب أطلقوا يدها في الاعتداء على أملاك الناس، وكانت قاصمة الظهر عندما جاء إلى حلق الوادي الأمير دون خوان النمساوي، أخ الملك فيليب الثاني والابن غير الشرعي للإمبراطور شارل الخامس ملك إسبانيا، وكان شاباً غراً متعجرفاً، فلم يصبر عليه أحمد، وقرر في ساعة يأس أن يهاجم الإسبان في حلق الوادي ويجليهم عنه، فخرج وكأنه في رحلة مع ألف من فرسانه ثم رجع إلى حلق الوادي وكمن فيه وأرسل طائفة من فرسانه نحو الإسبان، فلما خرجوا لطردها انقض عليهم فهربوا إلى داخل السور مذعورين حتى تركوا الباب مفتوحاً، ولكن أحمد لم يدخل السور خشية من أن يكون الأمر مكيدة.

 

وكتب أحمد إلى ولاة العثمانيين في طرابلس والجزائر يستمدهم العون، فأرسلوا قواتهم لمعونته، فمالت إليهم الحاشية وأهل تونس وشجعوهم على الإطاحة بأحمد وجعل البلاد تحت السلطنة العثمانية، فوقعت بينهم وبين أحمد عدة معارك في سنة 979=1572 كانت لهم فيها الغلبة عليه، ودخل قليج علي تونس، فلجأ أحمد الحفصي إلى الإسبان في حلق الوادي، وطلب من الإمبراطور فيليب الثاني النجدة، فأرسل أسطولاً من 138 سفينة و25000 جندي، يقوده أخوه دون خوان العصبي المزاج والشديد التعصب، فلما وصلوا تونس اشترط الإسبان على أحمد أن يقاسمهم الحكم والجباية، فقال أحمد: إنما شارطتكم على المال لا على مشاركة الحكم، فقال كبير الإسبان: إن قبلت، وإلا فعندي تحت يدي من يقبل الشروط وهو أخوك محمد.  فرفض واستنكر ذلك، واعتزل الحكم، ورحل إلى باليرمو في صقلية فأقام بها إلى أن مات.

 

وناوش القائد العسكري العثماني في تونس الإسبان، ولما أدرك تفوقهم العددي انسحب إلى القيروان فلحقه الإسبان فكرَّ عليهم وقتل عدداً منهم، ثم عاد إلى تونس فنازلها فلم يستطع فتحها، وفي هذه الأثناء نهب الإسبان بعض أحياء مدينة تونس العريقة، قال مقديش في كتابه نزهة الأنظار في عجائب التواريخ والأخبار: وقسمت المدينة بين المسلمين والنصارى، فاختلط النصارى بالمسلمين، وأهين المسجد الأعظم، ونهبت خزائن الكتب التي كانت به، وداستها الكفرة بالأرجل، وألقيت تصانيف الدين بالأزقة تدوسها حوافر خيل الكفار، حتى قيل إن أزقة الطيبيين بجانب جامع الزيتونة كانت كلها مجلدات ملقاة تحت الأرجل، وضربت النواقيس، وربطوا الخيل بالجامع الأعظم، ونبش قبر سيدي محرز بن خلف، فلم يجدوا به إلا الرمل... وكبير النصارى ساكن بالقصبة مع محمد الحفصي يجلسان معا بالقصبة للحكم، واستعمل النصراني سياسة الرفق بالناس ورفع الجور في الحكم.

 

وحيث جاء احتلال  إسبانيا لتونس على إثر هزيمة الأسطول العثماني في ليبانتو، كان لا بد من للدولة العثمانية من أن ترد عليه بقوة لتظهر لأعدائها مبلغ قوتها وتردعهم عن محاولات أخرى، فأصدر السلطان سليم الثاني أوامره إلى وزيره يوسف سنان شيكالا باشا وقائد الأسطول قليج علي باشا، وكلاهما إيطالي المولد، بإعداد حملة كبيرة تتوجه إلى تونس، لفتحها نهائياً وضمها إلى الدولة العثمانية، وأصدر أوامره إلى حيدر باشا في القيروان بأن يستعد ويحشد ما يستطيع من جنود لدعم الأسطول القادم.

 

وفي 23 محرم من سنة 981=1574 أبحر الأسطول العثماني من استانبول، يقوده قليج على أن يقود القوات البرية الوزير سنان باشا، وكان يضم 238 سفينة، وقام هذا الأسطول بمهاجمة سواحل إيطاليا في كالابريا ومِسِّينا لكونها خاضعة للدولة الإسبانية، ووصل الأسطول العثماني إلى خليج تونس في 24 ربيع الأول من سنة 981=1574، وانضمت إليه قوات جاءت بحراً من مصر، وفرض العثمانيون حصاراً ناجحاً على ميناء حلق الوادي، ووصف ذلك مقديش في كتابه فقال: وبدأوا يتقدمون قليلا قليلا إلى القلعة، ويبنون المتاريس يستترون بها، ويسوقون الأتربة أمامهم ويستترون خلفها، ويحفرون الخنادق فينزلون فيها، فلا تصيبهم المدافع، فيتقدمون إلى القلعة، على هذا الأسلوب إلى أن وصلت العساكر المنصورة إلى القلعة، فتقدموا بالبنادق وآلات الجهاد، ونصبوا بقرب القلعة المنجنيقات والمدافع، فوجهت إلى صوب الكفرة.

 

وما لبثت أن ردفت القوة العثمانية قوة بحرية من الجزائر، قادها رمضان باشا، وقوة أخرى من طرابلس بقيادة مصطفى باشا، فأصبح لدى سنان باشا عدد كاف من القوات ليهاجم مدينة تونس، فأرسلها على الفور لحصارها، وحيث كانت تونس وقلعتها مخربة لا تصلح للدفاع، جرت مناوشات بسيطة فر على إثرها الإسبان ومعهم الملك الحفصي محمد بن الحسن إلى قلعة حلق الوادي، ودخلت القوات العثمانية مدينة تونس وضبطتها، ثم تابعت مسيرها لمطاردة الهاربين الذين احتموا بالحصن.

 

واجتمع في القلعة الواقعة شرقي تونس نحو 7.000 مقاتل من الإسبان وأنصار السلطان الحفصي، وكانت مليئة بالمدافع والذخيرة والأقوات ما يكفي لشهور طويلة، ولما بلغت هذه الأحداث الوزير سنان باشا أرسل قليج علي لتقييم الموقف إزاءها فأدرك أنه المعركة الفاصلة وأن اقتحام القلعة سيكون صعباً، ولا بد من حصارها من كافة أطرافها وأن ذلك سيدوم لوقت طويل قبل أن تستسلم أو تقتحم، وبخاصة أن المدافع التي أتى بها على متن سفنه لم تكن من المدافع الثقيلة المخصصة لحصار مثل هذا القلعة الضخمة.

 

وحاصر الجيش العثماني القلعة على النمط الحربي المعهود آنذاك، والذي يتمثل في التقدم تدريجياً نحو أسوارها فيلغمها ويقتحمها، ولكنه تعرض لهجمات من الأعراب الذين تواطؤا مع الإسبان، فصار العثمانيون بين عدوين، وبدأت معنويات الجنود تسوء، فلما علم سنان باشا بذلك جاء بنفسه إلى الجيش وشارك في الحصار فهدأت الأمور، ووصل في تلك الأثناء والي الجزائر السابق أحمد باشا ومعه 3.000 جندي، فكان لذلك أثر طيب في الشعور بالقوة والتفوق، وأمره سنان باشا بحصار الطرف الجنوبي من القلعة.

 

وبعد 19 يوماً من التقدم البطيء، وصل جنود سنان باشا إلى حافة الخندق المحيط بالقلعة والمتصل بماء البحر، وكان عمقه أكثر من  30 متراً على العثمانيين اجتيازها للوصول إلى السور، فأمر الوزير بردمه بالتراب، وباشر ذلك بنفسه مع قادة العسكر، ولتثبيت التراب في الخندق فلا يجرفه الماء، قاموا بخلطه بالصوف، وقيل إنه استغرق حمل 70000 جمل من التراب والصوف، حتى امتلأ، فبنوا المتاريس فوقه ووصلوا إلى السور، وشاركت في ذلك قبائل الأعراب الذين بقوا على ولائهم الإسلامي، وهكذا أصبح الإسبان في مرمى المدافع والبنادق العثمانية.

 

وحاول الإسبان أن يغيروا على الجيش الذي يحاصرهم، فقامت طائفة منهم بالخروج عند السحر من الباب الغربي لتهاجم العثمانيين على حين غرة، ولكن القائد العثماني كان مستيقظا متأهباً فأوقع بهم، فانهزموا بين يديه منسحبين إلى القلعة، ولجزعهم لم يستطيعوا غلق الباب، ونادى الوزير في الجيش بمبلغ 1.000 دينار لأول من  يدخل القلعة، فحمل المسلمون حملة رجل واحد من كل الجهات واستطاعوا دخولها، وغنموا ما بها من آلات الحرب والذخائر، وأسروا القائد الإسباني ومحمد الحفصي، وكان فتح القلعة في 6 جمادى الأولى بعد 43 يوماً من حصارها فتحاً مبيناً لأنها كانت درة القلاع الإسبانية وأقواها مكنة واستحكاما.

 

ولما تمَّ هذا الفتح ، ارتأى الوزير سنان باشا أن ترميم القلعة وعمارتها وشحنها بالعساكر والآلات الحربية يحتاج إلى مبالغ كثيرة لا تتناسب مع الأهمية الاستراتيجية للقلعة، فقرر هدمها حتى لا يستطيع الإسبان العودة إليها إن شنوا حملة أخرى، فهدمت حتى وصلوا إلى أساساتها، ولم يبق من أثرها إلا المكان الذي كان مسكنا للقائد الإسباني.

 

وبعد الاستيلاء على القلعة توجه الجيش العثماني للاستيلاء على الحصن الداخلي فيها والذي يطلق عليه المؤرخون المسلمون كلمة البَستيون المأخوذة من الإسبانية، فاستولوا عليه في 25 جمادى الأولى بعد تضحيات دامية، ووجدوا فيه بارودا كثيرا  ومدافع وآلات حرب وأزواد، وكميات من السلاسل  والأغلال، وأسر سنان القائد الإسباني دون بيدرو بورتوكاريرو، وكان هناك قائد كبير كان أسره نصراً معنوياً كبيراً وهو القائد الإيطالي جابريو سيربِلّوني، فقد كان قائداً عسكرياً بارزاً، خاض من قبل معارك عديدة ظافرة ضد العثمانيين، وأرسل الأسرى إلى القسطنطينية فمات الإسباني أثناء الرحلة، أما الإيطالي فبقي هذه المرة في أسر العثمانيين 3 سنوات حتى افتدى نفسه، وعاد إلى بلده إيطاليا ليموت فيها.

 

وكان عدد من الحرفيين الإسبان قد تحصنوا بجزيرة صغيرة تدعى شيكلي في وسط مرسى حلق الوادي، فطلبوا الأمان من الوزير سنان باشا، فأمنهم، فأخبروه أنهم أهل صناعات يتقنون صناعة القنابل وسبك الحديد والنحاس وعمل المدافع الكبار، وغير ذلك من الصناعات الحربية، فأعطاهم الأمان على أن يعملوا في خدمة الدولة العثمانية، وسيقوا إلى المصانع الحربية في استانبول.

 

وبسقوط الحصن اكتمل بذلك الانتصار العثماني على إسبانيا، وكان عدد القتلى من الإسبان حوالي 10.000 وقتل نحوهم من الجنود العثمانيين، منهم عدد من كبار الأمراء الذين كان لهم باع طويل في الغزوات العثمانية، وترك سنان باشا قوة إنكشارية لحماية تونس هي الفيلق 101 وقوامه 5.000 جندي إنكشاري، وجعل الحكم فيها بين كبارهم، وأخذ معه إلى استانبول محمد الحفصي الذي مات مسجوناً فيها، وانتهت بذلك الحقبة الحفصية في تونس.

 

وعاد الوزير سنان باشا إلى القسطنطينية، وجرى له ولجنوده فيها استقبال حافل، وكان يوم دخوله يوما مشهورا مشهودا، فقد دخلت العساكر في صفوف تحييها الجماهير، وفي الوقت ذاته كانت السفن العثمانية في البحر مزينة بالألوية الملونة وتخفق عليها رايات النصر، وما لبث السلطان سليم الثاني أن توفي بعد هذا الفتح بثلاثة أشهر في 7 رمضان سنة 982=1574 وخلفه ابنه مراد الثالث الذي جعل سنان باشا في منصب الصدر الأعظم لمدة قصيرة، وتوفي هذا القائد العظيم في سنة 1014.

 

ولم تكن هزيمة إسبانيا في تونس آخر هزائمها، فقد كان الهولنديون على أعتاب ثورة عارمة على استعمارها الكاثوليكي لبلادهم وتنكيلها بهم لكونهم من البروتستانت، وكانوا قد بدأوا قبل 4 سنوات في سنة 1568 نضالهم في سبيل الاستقلال، والذي سيتحول إلى حرب أوروبية دامية عُرفت باسم حرب الأعوام الثمانين، والتي ستخرج منها إسبانيا في سنة 1648 دولة منهكة قد أفل نجمها وخبا بريقها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين