فاستبقوا الخيرات

الشيخ البهي الخولي

 
بسم الله الرحمن الرحيم
[وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {البقرة:148}.
 
بعض أقوال المفسرين:
وردت هذه الآية الكريمة في سياق النظم الكريم الذي تضمَّنَ حديثَ القِبْلة وتحويلها من بيت المقدس إلى الكعبة المكرَّمة... ومن ثم كان لابد للمُفسِّرين أن يلحظوا الرابطة التي بينها وبين موضوع القبلة، وأن يُبَيِّنُوا حظَّها الذي تؤدِّيه من مَعَاني هذا الحديث، فقالوا:
1 ـ الوِجْهَة هي القبلة، ومن معنى الآية على هذا: إنَّ لكل أهل دين وملَّة قبلة يتَّجهون إليها مُشركين كانوا أم كتابيين.
2 ـ إنَّها خاصَّة بأهل الكتب السماويَّة وحدهم، وهم اليهود، والنصارى، والمسلمون، فلكلٍّ منهم قِبلة خاصَّة به.
3 ـ إنها خاصَّة بالمسلمين وحدهم، والمراد أنَّ لكل قوم من المسلمين جهة من الكعبة يُصلون إليها، جنوبية أو شماليَّة، أو شرقيَّة أو غربيَّة.
اختلاف خصائص النفوس:
على أنَّ الآية الكريمة تتسع لمعنى آخر، إذ تنصُّ على أنَّ لكل إنسان مذهباً في الحياة، أو اتجاهاً خاصاً يتجه إليه، بحسب ما يجد في نفسه من مَيل طبيعي، أو ملائمة لخصائص ذاته.
ولسنا نقصر المذهب هنا على أن يكون للإنسان في الحياة مبدأ واضح مُتميز في السياسة، أو الاقتصاد أو الفلسفة أو محوها، بل نريد الدائرة الواسعة التي تشمل البشر جميعاً أصحاب المذاهب المُتميزة وغير المُتميِّزة.
فإنَّ الناس ليسوا نسخةً واحدة مُكرَّرة مُتماثلة في ملامح النفس ومشابه البدن...، فهم من حيث القالب الحسي مختلفون طولاً وقصراً، ونحافةً وغلظاً، وقوةً وضعفاً، وصحَّةً ومَرَضاً... وفي صفة الأنف والعين والفم والجبهة وسائر مَلامح الوجه...أي أنَّ أبدانهم ووجوههم ليست مَصْبوبة في قوالب مُتماثلة، ولا مَطْبوعة على مثال واحد... بل إنَّ الاختلاف ليذهب في تلك الناحية الحسيَّة، حتى يَشمل الأمور الدقيقة التي لا يَكاد يلتفت إليها، كتغير آثار البنان في البصمات المختلفة لملايين البشر.
هذا الاختلاف المعجز العجيب الذي يدلُّ على قدرة الخالق سبحانه، يقابله اختلاف آخر في ملامح النفس، وتسوية الطبع، وتقدير الغرائز، وخصائص الفكر والعاطفة... فكما يختلف الناس في التقاسيم الحسيَّة الظاهرة، يختلفون في الملامح النفسيَّة الباطنة.
فلكلِّ إنسان قَالبه البدني الذي لا يُماثله فيه أحد... وكيانه المعنوي الباطن الذي يَتميَّز به عمن سواه.
اختلاف وجهات القلوب:
ومعروف أنَّ القالب الحسي إن هو إلا وعاء، أو ظرف لخصائص الكيان المعنوي... وأنَّ العوامل الباطنة المختلفة هي التي تتحكَّم في توجيه البدن إلى الوجهة التي تشاء، وتفرض عليه من ألوان التصرفات ما تريد. فللطبع أحكامه، وللغرائز مَطَالبها، وللعاطفة أشواقها وميولها، وللفكر مَنطقه، ونقده، وتمييزه... وكل ذلك لا يستطيع أن يتَّخذ سبيله إلى ظاهر الحياة إلا عن طريق البدن... أي لا يستطيع أن يُعبِّر عن نفسه، ويكشف حقيقة مستوره إلا بوساطة الأجهزة المختلفة والجوارح المتباينة التي يتألَّف منها البدن... فالمرء حين يتكلَّم، أو يكتب، أو يشير بيده، أو يمشي برجله، أو يبيع، أو يشتري، أو يتصل بالناس، أو يتقلَّب في أنواع التصرُّف، إنما ينبعث بنداء بواعث كامنة وإملاء عوامل باطنة، وما حركات البدن إلا التعبير الطبيعي من مقاصد تلك البواعث والعوامل.
فحقيقة الإنسان ـ إذاً ـ ليست هي بدنه الذي يؤمر فيأتمر، ويساق فيتحرك ويسخر فيلزم ما يُملى عليه أو يرسم له، بل هي المزاج المعنوي الذي يجمع اتجاهات الطبع، والغرائز والعاطفة، والفكر في نسق واحد أو كيان نفساني واحد يطبع سلوك صاحبه بطابعه الخاص، ويرسم له أذهان الناس شخصية مُتميِّزة عما سواها.
هذا المزاج المعنوي، أو هذا الكيان النفسي، هو حقيقة المرء التي تهب له وجوه المستقل، وتميزه بخصائصها الذاتية فلا يماثله فيها أحد.
وبما أنَّ سلوك المرء إن هو إلا الخط الذي ترسمه له طباعه، وميوله وغرائزه، وذهنه، فلا جرم أن يكون لكل امرئ خطه الذي لا يشاركه فيه أحد، ووجهته التي يتميز بها من دون الناس.
وهذا كله هو من معاني قوله سبحانه: [وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا] {البقرة:148}. أي: لكل واحد من الناس قبلة أي: وجهة على ما ذكره الإمام القرطبي في تفسيره ـ الجامع لأحكام القرآن الجزء الثاني ص 164 ـ.
احترام الوجود الذاتي للإنسان:
والحق سبحانه لا يريد بهذا القول الكريم مجرد التقرير والخبر وإفادة المعنى، بل يريد النص على سنة باقية، وقانون أصيل من قوانين صلاح الفرد والمجتمع.
1 ـ يريد النص على أن لكل إنسان شخصيته المستقلة، فإذا هو حافظ على هذا الاستقلال، ودعم أصوله وزكَّى فروعه، وعاش في نطاق ذاتيته الخاصَّة، فقد مضى على سنَّة الله إذ أراده أمة وحده، ودولة قائمة بذاتها.
وإذا هو لم يعرف لنفسه حقَّها، فنافق الرؤساء ومن إليهم...أو مضى يُقَلِّد بعضَ ذوي الشهرة في حركاتهم، وأصواتهم ومَظَاهرهم، وطريقة أدائهم للأعمال، أو راح على غير سَجيَّتِه يتكلَّف الأمور ويرائي الناس في تصرفاته، فقد جانب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وأهدر شخصيته، وغيَّر خلق الله الذي آثره به، وسواء عليه.
وتغيير خلق الله ما فتئ ديدن الشيطان منذ أقسم بين يدي ربِّ العزَّة جلَّ شأنه: [وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ] {النساء:119}.
2 ـ ويريد سبحانه أن يُقرِّر حقَّ حرية الرأي لكل إنسان...فلكل إنسان وجهة ينظر إلى الحياة من زاويتها... ولا يدري أحدٌ في أي زاوية يكون الحق، والخير، ورب حكمة ينشدها كبار الناس في آفاقهم العقلية من زواياهم الخاصة فلا يجدون لها أثراً؛ لأنها مختبئة عنهم، في زاوية رجل مغمور، إذا نظر إليها تبيَّنَها في بساطة ووضوح.
فالنظر إلى الحياة من زواياها المُختلفة، يكفل لنا الإحاطة بأوفر حظٍّ من الصواب والخير، أو هو نَوعٌ من التعاون الذهني على استثارة ما في هذا الكون من مَنَافِعَ حسيَّة ومعنوية لمصلحة الفرد والمجموع، ولذلك خلقنا الله سبحانه مُتفاوتين في طبيعة التفكير، وجعل لكل منا زاويته الخاصَّة التي يَنْظر إلى الحياة من عندها.
وليس معنى حرية التفكير أنَّ الإنسان حرٌّ في تَنشيط مواهبه العقليَّة وعدم تنشيطها، فإن شاء فكَّر وشحذ ذهنه، وإن شاء تجاهل كل ما حوله، وترك ذهنه كاسداً معطلاً..لا، فإنَّ لكلِّ مَوهِبة وهبها لنا الله سبحانه حقاً علينا، هو تَنْشيطها، واستعمالها فيما خُلقت له، وذلك من صَميم شكر الله، أما تعطيلها وإهمالها فهو ضرب من الكنود والجحود لنعمته سبحانه، فوق أنَّه ضرب من الحرمان والشقوة.
وما قيمة المرء إذا عَاش بذهنٍ كَاسدٍ مُعطَّل؟، وما قيمة الأمَّة إذا عاش ملايينها الكثيفة في مَعْزِل عن تمحيص الأمور وإدراك وجوه الحق فيها؟.
إنَّ لك أن تتصوَّر مَبْلغ ما يَفُوتها من المنافع، ويَنَالها من الشَّلَل والتأخُّر، إذا كانت زوايا البحث عن الحق ومَنَابع الخير فيها مُعطَّلة، أو مُهْدَرة على هذا النحو المخزي الأثيم.
إنَّ الفصل في حريَّة الرأي، أنها حق طبيعي للمرء، ولكنه حق يتخذ صفة التكليف اللازم، والرسالة الواجبة الأداء.
ذلك، وحرية الرأي هي حارس العدالة في الشعب، والسياج الذي يكف الحاكم أن يستبدَّ بأمور الناس من دونهم، ولا قيام لحكم الطاغية إلا على الأذهان الممسوخة والأفكار الراكدة البلهاء، والحَجْر على ذوي الرأي أن ينظروا إلى الأمور إلا من الزاوية التي يراها لهم الطاغية.
وقد أدركَ فرعونُ مصر قديماً تلك الحقيقة فأعلن إلغاء حريَّة الرأي بقوله: [قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ] {غافر:29} أي: أنه اعتزم تعطيل ملكة الرأي فيهم، فلا يسمح أن يكون لهم رأي في الأمور غير ما يرى هو فيها، وذلك من مسخ المواهب، وتغيير خلق الله، وصميم أمر الشيطان.
احتمال الفساد والفرقة:
ولكن ما عاقبة أن يصبح كل منا حراً في تفكيره، وميوله، وشخصيته واتجاهه في الحياة؟، ألا يجوز أن يفضي بنا ذلك إلى ضرب من البلبلة والفرقة، والتدابر، ونبتلى بالشح المطاع، والهوى المُتَّبَع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه؟.
إنَّ تلك المبادئ تكون مأمونة العاقبة لو أنَّ طبيعة الإنسان مَفْطورة من الخير المحض الذي لا يَشُوبه الاستعداد للشر... أما وهو يحمل في طبيعته خصائص الحمأ المنتن إلى ما يحمل من سرِّ الروح العلوي، فإنَّ إطلاق تلك المبادئ، بلا قيد هو إطلاق لقوى الشر تَعيثُ في الأرض فساداً، فيكثر فينا السخفاء والسفهاء، ويقل التعاون، وتنتشر المنكرات، ويصعب جمع أفراد الأمة في رأي عام، وخطة تكفل وحدتها ومصلحتَها.
ضمان الصلاح والوحدة:
لهذا نرى الآية الكريمة تُقرِّر الشروط، وتضع القيود التي تنفي عنها شر تلك المبادئ، وتكفل خيرها وبرها، وذلك إذ يقول سبحانه: [ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {البقرة:148}.
فإذا كان لكل إنسان وجهته الخاصة، فيجب أن تكون لتلك الوجهة غاية معينة تُنظِّم سيرها، وتحكم أمرها... ولا نستطيع أن نتصور اتجاهاً للمرء ليس له غاية مقصودة أو غرض منشود إلا أن يكون أبله أو مجنوناً.
ولا يُنازع أحدٌ في أنَّ الغاية التي يَصلح بها اتجاه المرء، ولا يصلح له اتجاه بسواها ـ هي الخير، فذلك مُقرَّر في كل فطرة، وكل فلسفة رشيدة، وكل دين، ولذا يأمرنا الله سبحانه بقوله: [ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ]. أي: فاجعلوا الخير غايتكم في كل وجه تنبعثون إليه. فإذا تقرَّر الهدف كانت وحدة الأمة، وإذا كان الخير هو الغاية كان الصلاح لا محالة.
دين السرعة:
والإسلام الحنيف يسنُّ لنا ـ في هذه الآية ـ مناهج السرعة، ويقرر أنَّ الحياة إن هي إلا مضمار لتحصيل الخير لا يظفر فيه إلا أهل السبق والتشمير.
ونحن نقرأ قول الله سبحانه: [سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ] {الحديد:21}،[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] {آل عمران:133}.
ومن معاني هذه السرعة أن يعنى المرء بأن يكون له مرونة ذهنيَّة، وملكات مُواتية ينجز بها الأعمال في أقصر مدَّة ممكنة مع وفرة الإنتاج وتحقق الإحسان، فإنَّ الله تعالى قد كتب الإحسانَ على كل شيء، وهو سبحانه يقوله: [وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ] {الواقعة:11}، [لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ] {يونس:26}.[وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] {البقرة:195}.
ومن مَعَانيها أيضاً أن نُبادر إلى العمل ـ روحياً كان أم حسياً ـ متى حان وقتُه أو عرضت مُناسبته، وقد أثنى الله بذلك على الأنبياء، فقال جلَّ شأنه:[ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ] {الأنبياء:90}. وقال عليه السلام في خطبة له: (بادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا).
ومن ثم كان الصلاة لوقتها أفضل الأعمال عند الله تعالى، فقد سأل عبدُ الله بنُ مسعودٍ رضي الله عنه رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (الصلاة لأول ميقاتها) جعلنا الله من السابقين إلى طاعته العاملين برضائه، آمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة منبر الإسلام، السنة الثانية عشرة، شعبان 1374هـ، العدد الثامن.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين