{فَإِنَّهُ رِجْسٌ}

وصلني رابط هذا التسجيل المصور، قبل نحو أسبوعين من أحد الإخوة طلبة العلم، فأجبته وقتها إجابة وجيزة آنيَّة قلت فيها:

يا سلام على فقهاء الإسلام في الإنستغرام!!

ما أجرأه على القول على الله بغير علم.!

والقول على الله بغير علم، قرين الفواحش والإثم والبغي والشرك، في آية الأعراف:

{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} -------------

وبعده بنحو عشرة أيام، وصلني أيضا هذا الرابط من أحد طلبة العلم، مشفوعا بقوله:

[قد أرسل إليَّ أحد الإخوة هذا المقطع يستوضح.

فليتكم تكرمون المسلمين برأيكم وردكم، وقد أخبرني من أرسله أنَّ المقطع منتشرٌ جدًّا بين فئة المهاجرين في أوربا.]

------------

فكتبت في جوابه:

كلام هزيل من رجل جريء على القول على الله بغير علم.

وحسبك من رقة دينه، جراءته هذه التي يتحاشاها عوام المسلمين، ممن ليسوا أطباء ولا مهندسين ولا أكاديميين ولا مثقفين، ولكن عندهم من مخافة الله تعالى ما يكفهم عن الخوض في شريعة الله بغير علم.

هذه الجراءة في نظري، صورة من صور الجهل بالدين، وإن كان صاحبها من أصحاب الشهادات العلمية، أو الوجاهة الاجتماعية، لأن من تكلم في كتاب الله بغير علم، مخطئ وإن أصاب.

قال ابن تيمية رحمه الله: فمن قال في القرآن برأيه فقد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ، لأنه لم يأت الامر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل، فهو في النار وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر. انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/ 371)

وجاء في مصنف ابن أبي شيبة بسنده عَنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه، سُئِلَ عَن: {وفَاكِهَةً وَأَبًّا} فَقَالَ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي؟ وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي؟ إذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللهِ مَا لاَ أَعْلَمُ. اهـ

وفي مصنف ابن أبي شيبة أيضا، بسنده عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ الْفَاكِهَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا، فَمَا الأَبُّ؟ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: إنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ يَا عُمَرُ. اهـ

قال ابن تيمية رحمه الله، بعد أن أشار إلى هذين الأثرين: وهذا كله محمول على أنهما رضي الله عنهما، إنما أرادا استكشاف علم كيفية الأبِّ، وإلا فكونه نبتا من الأرض ظاهرٌ لا يُجهل، لقوله تعالى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30)} [عبس]. اهـ مجموع الفتاوى لابن تيمية. (13/ 372)

رأيت تدرُّج هذا الطبيب المتحدث، من التساؤل والتردد إلى الجزم بالحكم، وإلى تقريرِه أن الله خلق الخنزير لنا لأنه يعلم أنه ستكون زراعة أعضاء.. وإقرارِه المذيع على الحكم بحل الإنسولين من الخنزير، عندما تساءل عن الإنسولين - الأحسن بزعمه - المستخرج من الخنزير، تساؤلَه الإنكاري: حرام؟ فقال المذيع: حلال... فرأيت في ذلك استدراج الشيطان إياهما من طهر الحلال إلى رجس الحرام، بهذه الجرأة الذميمة على القول على الله بغير علم، وذكرتُ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) } [البقرة]

وحسبك من الابتذال والهزال، أن يتكلم في الحرام والحلال مذيعٌ وضيف ليسا من فرسان هذا المجال شكلا ولا مضمونا، على هذا النحو من الارتجال باعتراف الطبيب حين قال: [.. أحد التفسيرات اللي جت في مخي]

فحُقَّ لنا أن نتمثل قول الأديب اللغوي الشاعر أبي علي الآمدي، ت 444 هـ  في هذا المعنى:

تصدَّرَ للتّدريس كلُّ مُهوَّسِ

 بَليدٍ تسمّى بالفَقيهِ المدرَّسِ

فَحَقٌّ لأهل العِلْم أن يتمثَّلوا

ببيتٍ قديم شاعَ في كلِّ مجلسِ

لقد هَزُلَتْ حتّى بدا من هُزَالها

كُلاها، وحتّى سامها كلُّ مُفْلسِ

ولست أدري ماذا وراء هذه الدعوة المُلحَّة إلى التطبيع مع الخنزير، وكأنه يتحدث عن ظباء الفلاة التي يُضرب بها المثل في الحسن واللطف والأنس والجمال.

هذه الدعوة المتزامنة مع حملات التطبيع مع إخوان القردة والخنازير.!!

ولستُ أناقش هذا الطبيب المتحدث فيما ادعاه من جودة الإنسولين المستخرج من الخنازير، وتفضيله على المستخرج من البقر، ولا فيما ادعاه من أن أقرب نسيج للإنسان هو الخنزير، وأَدَعُ ذلك لأهل الاختصاص.

مع أني لاحظت على حديثه في هذا التسجيل، وفي بعض تسجيلات أخرى شاهدتها له من قبل، كحديثه عن قوله تعالى: {فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)} [الحجر]..

لاحظتُ أنه مولَع بالمبالغة والتهويل والإغراب في المعلومات التي يقدمها، فيستولي بذلك على اهتمام المشاهدين الذين يظنون أنهم عثروا على أبكار الكشوف، وفرائد الفوائد.

ولا أدل على ذلك من ذلك التقريظ، في البطاقة التي وُضعت على التسجيل، وفيها: "أعجب تسجيل سمعته بعد أن أثبت الطب.. إلخ.."

وإنما أناقشه في ثلاث مسائل مما جاء في كلامه:

المسألة الأولى:

في ادعائه احتمال تعليل تحريم الخنزير، بالمحافظة عليه، لأنه كنز فوائد طبية لبني الإنسان في مسألة نقل الأعضاء.. ثم غلا في تلك الفكرة التي "جاءت في مخه" حتى قرر أن الخنزير حرام أن يؤكل حفاظا عليه، وليس لأمر آخر، وأن نقل كُلْية الخنزير إلى الإنسان حلال، وان الله خلق لنا الخنزير لعلمه بحاجتنا إليه في نقل الأعضاء..

وأقول: يا دكتور، غفر الله لك، دع عنك كل هذا اللغو والأوهام والتخرصات والظنون التي ما أنزل الله بها من سلطان، فقد أغناك الحق سبحانه باليقين عن الظن، وبالنص عن الاجتهاد. ولا اجتهاد في مورد النص. كما يقول الأصوليون.

فإن تعليل تحريم الخنزير قد جاء منصوصا في آية محكمة، بأنه رجس.

وذلك في قوله تعالى في آية الأنعام: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]

وليس بعد كلام الله كلام.

والرجس يجمع معاني الْخُبْثِ وَالْقَذَارَة والتحريم، وهي مجتمعة في الخنزير حِسًّا ومعنىً.

فخذ أيها القارئ هذا التعليل لتحريم الخنزير من الله سبحانه، الذي حرمه، فإنه الحق. واطِّرِح ما سواه مما سمعته من هذا الطبيب أو من غيره، فإنه ليس بعد الحق إلا الضلال.

المسألة الثانية:

في ادعائه أن تسمية "لحم الخنزير" في آيات تحريمه، تدل على حل الانتفاع بما سوى الأكل من نقل الأعضاء، وكأنه أول مَن لاحظ أن تحريم الخنزير قد جاء مقرونا بذكر لحمه.

وأقول: كان مقتضى الحصافة والأناة في البحث، أن ينظر توجيه هذا الاقتران عند أهل العلم من المفسرين والفقهاء، فإنهم لا شك قد وقفوا على هذه الملاحظة التي لاحظها الطبيب المتحدث، في قوله تعالى: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} في كل مِن سوَر البقرة، والمائدة، والنحل، وقوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} في الأنعام.

وهي ملاحظة لافتة حقا، لكن كيف وجهها أهل العلم؟

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تفسيره: (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن): [كَمَا جَزَمُوا بِتَحْرِيمِ أَجْزَاءِ الْخِنْزِيرِ لِدُخُولِهِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُ رِجْسٌ وَأَعَادُوا الضَّمِيرَ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ دُونَ الْمُضَافِ. اهـ انظر (أضواء البيان) (4/ 197)

ولاحظ تعبيره بالجزم.. وتقريره إعادة الضمير إلى المضاف إليه، دون المضاف. بمعنى أن قوله تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} يعني أن الخنزير كله رجس، وليس فقط لحمه.

وقال القرطبي المفسر عند تفسير آية البقرة في تحريم لحم الخنزير: قوله تعالى:" وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ" خص الله تعالى ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ذُكِّيَ أو لم يُذَكَّ، وليعم الشحم وما هنالك من الغضاريف وغيرها. اهـ انظر تفسير القرطبي (2/ 222)

وَمُرَادُ القرطبي بِهَذَا التوجيه: أَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ الخنزير إِنَّمَا يُحَرَّمُ إِذَا كَانَ مَيْتَةً، بل حتى لو ذُكِّيَ، فإن لحمه يبقى حراما لا تُحِلُّه الذكاة.

وقال ابن عاشور في تفسيره: (التحرير والتنوير): وَذِكْرُ اللَّحْمِ هُنَا لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ لِلْأَكْلِ، فَلَا دَلَالَةَ فِي ذِكْرِهِ عَلَى إِبَاحَةِ شَيْءٍ آخَرَ مِنْهُ، وَلَا عَلَى عَدَمِهَا، فَإِنَّهُ قَدْ يُعَبَّرُ بِبَعْضِ الْجِسْمِ عَلَى جَمِيعِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَن زَكَرِيَّاء: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مَرْيَم: 4] اهـ انظر (التحرير والتنوير) (2/ 118)

ومقصوده: أن الوهن الذي نسبه زكريا عليه السلام، إلى عَظمه، قد أصاب أيضا اللحم والعصب وسائر قوى الجسم، لكنه عليه السلام عبَّر ببعض الجسم عن جميعه.

وهو استعمال كثير شائع في الفصيح، تقول مثلا: فلان أعتق رقبة. أي أعتق رقيقا بأكمله من فرقه إلى قدمه، ولا يختص العتق برقبته.

وتقول مثلا: فلان عنده مئة رأس من الغنم.. فلا يفهم عاقل أن عنده رؤوس الغنم دون سائر أعضاء أجسادها.

وكذلك هنا، فإن الحق سبحانه قد عبَّر بتحريم لحم الخنزير عن تحريم سائر أجزائه.

ومما يدل على أن سائر أجزاء الخنزير لها مثل حكمه في التقذير، وفي تحريم الأكل والانتفاع، حديث مسلم عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الحُصَيب أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ.

فقد سوى بين اللحم والدم في القذارة والتنفير.

وحديث الصحيحين عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ.

فلم يخص بتحريم البيع لحم الخنزير دون سائر أجزائه.

وحديث الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ.. الحديث..

قال النووي عند شرحه لهذا الحديث في صحيح مسلم: [وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَغْيِير الْمُنْكَرَات وَآلَات الْبَاطِل، وَقَتْلُ الْخِنْزِير مِنْ هَذَا الْقَبِيل.

وَفِيهِ دَلِيل لِلْمُخْتَارِ مِنْ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور أَنَّا إِذَا وَجَدْنَا الْخِنْزِير فِي دَار الْكُفْر أَوْ غَيْرهَا وَتَمَكَّنَّا مِنْ قَتْله قَتَلْنَاهُ، وَإِبْطَالٌ لِقَوْلِ مَنْ شَذَّ مِنْ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ فَقَالَ: يُتْرَك إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَاوَة.] اهـ انظر شرح النووي على مسلم (2/ 190)

وقال الحافظ ابن حجر عند شرح هذا الحديث في فتح الباري: [قَوْلُهُ: "وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ": أَيْ يَأْمُرُ بِإِعْدَامِهِ مُبَالَغَةً فِي تَحْرِيمِ أَكْلِهِ، وَفِيهِ تَوْبِيخٌ عَظِيمٌ لِلنَّصَارَى الَّذِينَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ عِيسَى، ثُمَّ يَسْتَحِلُّونَ أَكْلَ الْخِنْزِيرِ، وَيُبَالِغُونَ فِي مَحَبَّتِهِ.] اهـ انظر لابن حجر- دار المعرفة (4/ 414)

وقال الحافظ في موضع آخر: [وَيُسْتَفَاد مِنْهُ تَحْرِيم اِقْتِنَاء الْخِنْزِير، وَتَحْرِيم أَكْله، وَأَنَّهُ نَجَس، لِأَنَّ الشَّيْء الْمُنْتَفَع بِهِ لَا يُشْرَع إِتْلَافه] اهـ انظر فتح الباري لابن حجر- دار المعرفة (6/ 491)

ولاحظ قول الحافظ: "لِأَنَّ الشَّيْء الْمُنْتَفَع بِهِ لَا يُشْرَع إِتْلَافه"

وقارن بين الثقافة الشرعية التي توحي بها تلك النصوص من الآيات والأحاديث والنُّقولِ عن أهل العلم، في تقذير الخنزير، وتحريم الانتفاع به بكل وجوه الانتفاع، والتنفير منه بكل حال..

وبين الثقافة البديلة التي ترفع من شأن الخنزير، التي يقدمها هذا الطبيب في هذا التسجيل.!

 المسألة الثالثة:

في حكم التداوي بإدخال جزء نجس في جسم الإنسان، من الخنزير أو من غيره.

وهذه قضية فقهية تناولها الفقهاء في نطاق: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]

فإن التقييد بالضرورة جاء مقرونا بشكل لافت، بجميع آيات تحريم المحرمات من الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح لغير الله..

قال تعالى في البقرة: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ "فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ" إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}.

وقال في المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا "فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (3)}

وقال في الأنعام: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ "إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ" وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) }

وقال في الأنعام أيضا: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ "فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (145)}

وقال في النحل: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ "فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (115)}

وعليه فمن اضطر إلى التداوي بشيء من أعضاء الخنزير، أو حتى إلى أكله، فإن مِن القواعد الفقهية المعتبرة:  أَنَّ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ.

وقد تناول الإمام النووي رحمه الله تعالى مسألة التداوي بالشيء النجس، بالتفصيل في كتابه: (المجموع شرح المهذب) فقال: [إذا انكسر عظمه فينبغي ان يجبره بعظم طاهر. قال أصحابنا: ولا يجوز أن يجبره بنجس مع قدرته علي طاهر يقوم مقامه، فإن جبره بنجس نُظِر، إن كان محتاجا إلى الجبر، ولم يجد طاهرا يقوم مقامه فهو معذور، وإن لم يحتج إليه، أو وجد طاهرا يقوم مقامه، أثم ووجب نزعه إن لم يخف منه تلف نفسه، ولا تلف عضو، ولا شيئا من الأعذار المذكورة في التيمم، فإن لم يفعل أجبره السلطان، ولا تصح صلاته معه، ولا يُعذَر بالألم الذي يجده إذا لم يخف منه. وسواء اكتسى العظم لحما أم لا. هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور، لأنها نجاسة أجنبية حصلت في غير معدِنها. اهـ انظر المجموع للنووي (3/ 138)

والله أعلم.

المقطع المقصود في المقالة


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين