غيبيات التطور

إنّ ممّا يشنع به التطوريون على منتقدي نظريتهم أنهم غيبيون منغلقون، لم يواكبوا تطور العلوم، وقد جمت منهم الفهوم، وأنهم ما يزالون فوق الثرى وغيرهم صار بين النجوم، وأنّهم إنّما يحاربون النظرية من منطلق ديني عقائدي، لا من منظور علمي تجريبيّ.. والعجيب الذي لا ينقضي منه العجب ليس فقط كون ادعاءاتهم تلك مجرّد بهتانٍ أثيم، وتعصب ذميم، بل العجيب أنّ ما يرمون به مخالفيهم هم المتلبسون به في واقع الأمر وحقيقة الحال، وكأن افتراءاتهم هذه هي أوضح تطبيق عمليّ للمثل العربي (رمتني بدائها وانسلّت) فوقعوا فيما ينهون عنه، وتحققوا بما يتبرؤون منه.. فانطبق عليهم قول أبي العلاء:

رُوَيدَكَ قَد غُرِرتَ وَأَنتَ حُرٌّ * بِصاحِبِ حيلَةٍ يَعِظُ النِساءَ

يُحَرِّمُ فيكُمُ الصَهباءَ صُبحاً * وَيَشرَبُها عَلى عَمَدٍ مَساءَ

إِذا فَعَلَ الفَتى ما عَنهُ يَنهى * فَمِن جِهَتَينِ لا جِهَةٍ أَساءَ

وبيان هذا المقال، وتفصيل ذلك الإجمال، أن هذه الفرضية التي تدعي أن المخلوقات قد تطور كل نوع منها عن سلف له أقل تعقيداً حتى نصل بالأسلاف إلى الخلية الأولى.. قد تزعزعت أركانها، وتهاوى بنيانها، بمكتشفات علم البيولوجيا الحديث الذي أثبت بما لا يدع مجالاً أن التعقيد في الكائنات الحية بدءاً من وحيدات الخلية حتى أضخم المخلوقات.. هذا التعقيد الذي لا يمكن للعقل أن يحيط بأبعاده يستحيل أن يكون نتيجة لتطور أعمى.. وقد بينت في مقال سابق بعنوان (الرياضيات تدحض نظرية التطور) أن تثبيت الطفرات النافعة عبر الأجيال لإنشاء مخلوق كالإنسان يحتاج إلى أضعاف أضعاف أضعاف عمر الكون.. وكان كل فتح جديد في علم الأحياء يهدم من نظرية داروين جانباً حتى صارت من منظور العلم أثراً بعد عين.. ورغم كلّ ذلك ترى معتنقي دين التطور ينافحون عن عقيدتهم، ويدافعون عنها، بالرغم من أنهم لم يقدّموا حتى الآن دليلاً يصلح لأن يحتجوا به على صحتها بتعصّب غيبي، وسلفيّة علميّة لا تقبل النقاش ولا تعنو للحوار.. حتّى لقد صارت الأوساط العلمية في الغرب تنبذ كل مرتد عن دين التطور فتحكم بكفره العلمي وتقيم عليه حد الطرد الأكاديمي.. وأمثلة هذا الاضطهاد الأشبه بمحاكم التفتيش الإسبانية قد أوردها الفيلم الوثائقي الشهير (المطرودون) الذي بيّن بالوثائق طرد كثير من الباحثين والعلماء من مناصبهم ووظائفهم لأنهم حكّموا عقولهم ورفضوا هذا الأيمان الغيبي بنظرية تدّعي تفسير نشوء الحياة بضروب من المجازفات العلمية التي لا تستند إلى دليل حقيقي غير قول نبي التطور داروين الذي حاول أتباعه منذ مئتي عام العثور على ذلكم الدليل دون جدوى ومع ذلك تراهم مصرّين على أن النظرية حقيقة علمية يجب الإيمان بها على كل مشتغل بعلم البيولوجيا وإلا....

ومن أمثلة هذا الاضطهاد الفكري ما عرف بمحاكمة (دوفر) إذ رُفعت دعوى نظر فيها قاضي محكمة المنطقة الوسطى في ولاية بنسيلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية، فحواها أن مَدْرسة في المنطقة المذكورة قد ارتكبت جريمة الردة عن دين التطور وأنها أدرجت نظرية التصميم الذكي (أي أن هناك خالقاً خلق الكون) ضمن احتمالات تفسير نشوء الحياة.. وفي 20 كانون الأول 2005 اصدرت المحكمة حكمها الذي صدر في 139 صفحة بان قرار المدارس تعليم التصميم الذكي غير دستوري وخلص تقريرها إلى اعتبار التصميم الذكي ليس «علماً» وأنه لا يجوز لإدارة المدارس طرح وجهات نظر دينية تنتقص من نظرية التطور العلمية.

فانظر يا رعاك الله من الذي يكمّ الأفواه ويحارب البحث العلمي الحرّ ويفرض الإيمان بنظرية لم يستطع العلم إثباتها فرضاً بقوة الكهنوت الأكاديمي وسلطة الإكليروس البيولوجي..

وإذا كنّا نستطيع فهم دوافع هؤلاء الكهنة الغربيين في دفاعهم المستميت عن النظرية لأنّ البديل المنطقي عنها هو الإيمان بوجود الخالق وهذا ما يفرّون منه إلى أي وهم أو خرافة، فكيف يمكن أن نفهم دوافع أتباعهم من المسلمين الذين يحاولون أن يوفّقوا بينها وبين الإسلام في سعيٍ يائس للجمع بين المتناقضات؟!

أَيُّها المُنكِحُ الثُرَيّا سُهَيلاً * عَمرَكَ اللَهَ كَيفَ يَلتَقِيانِ

هِيَ شامِيَّةٌ إِذا ما اِستَقَلَّت * وَسُهيلٌ إِذا اِستَقَلَّ يَمانِ

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين