غزة الصابرة!

الوهْن والوهَن ضعف في الَخلق أو الخُلُق؛ فمِن ضعف الخَلق قول زكريا عليه السلام: {إني وهن العظم مني) أي: ضعف ورقَّ، ومن الوهن الخُلقي الضعف المصحوب بالتخاذل والخوف والخوَر وهذا منهي عنه بقوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}، وقد أخبر الله جل وعلا عن الأَتْباعِ المصدقين للرسل الذين جاهدوا معهم فأصابوا وأُصيبوا، فلم يفتّ في عضدهم ما أصابهم في سبيل الله ولا لحقهم وهن ولا استكانة، فقال سبحانه: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}، أي: ما فتروا وما جَبُنُوا عن قتال عدوهم، {وَمَا اسْتَكَانُوا}؛ فلم تصبهم الذلة والخضوع لعدوهم بل زادهم بغي الأعداء عليهم إيماناً وثباتاً.

  إن ضعف الأمة المادي والعسكري لم يكن في يوم من أيام عزها سبباً كافياً لهزيمتها، فمعارك المسلمين الفاصلة مع عدوهم في غالبها غير متكافئة، لكن الأمة اليوم تعاني من داء الوهن المعنوي، وضعف الإيمان والبعد عن أسباب النصر.

وقد نُهينا عن الوهن والتخاذل أمام الأعداء: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}، {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}، فكما يألم المجاهدون من جراحهم ومصابهم يألم عدوهم مما أصابه من الجراح والهلع وفقدان الأمن والاستقرار، ولكن شتان بين ما ينتظر هؤلاء وأولئك عند الله. وشتان بين أصحاب الأرض المتشبثون بذرات ترابها وحطام منازلها المدمرة، وبين شذاذ الآفاق الذين يولون مدبرين، عند أول فزع.

والوهن صفة مذمومة ليست من صفات المؤمن المعتز بإيمانه ودينه لأن الإيمان علو وثبات والوهن دناءة في الهمة وخور في العزيمة. وقد قال سبحانه في تثبيت المؤمنين المجاهدين: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِين. أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}

وقد تكفل لنا بإبطال كيد الكافرين متى ما صدق المسلمون في التوكل عليه {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}.

وأخبر نبينا صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه عن تسلط أعدائنا علينا وتكالبهم علينا، متى ما دب الوهن فينا، وتعلقت قلوبنا بالدنيا وركنت إليها.

وللوهن أسباب أهمها المعاصي وفي الحديث "وجُعل الذلة والصغار على من خالف أمري". وقد كشف تخاذُل المسلمين عن القيام بواجبهم في نصرة إخوانهم في فلسطين في معركة الكرامة، المسماة بطوفان الأقصى، عن مدى الوهن الذي أصاب الأمة، ومع شدة المحنة وفداحة المصيبة إلا أن غزة علمتنا دروساً يجب أن نعيها جيداً:

 فقد علمتنا غزة أنه لا طريق لعزة الأمة إلا بإيمانها؛ فبينما ارتفعت رؤوس أهل غزة وسمت مكانتهم في قلوب المسلمين لإقدامهم وصبرهم وثباتهم، يعيش الخونة لأمتهم ودينهم أذلة يجرون أذيال الخزي؛ فالخائن لأمته دنيء النفس ذليلها، وإن ستر دناءته بالخداع والتلبيس والتبريرات الباردة.

         وعلمتنا غزة أن كسر الإرادة عسير، وبالمقابل فللكرامة ثمن باهظ يبخل به الكثير، وعلمَنا أهل غزة كيف يكون الجود (والجود بالنفس أقصى غايةِ الجود).

         وعلمتنا غزة أن اليهود جبناء خوارون رعاديد، لا يجيدون القتال إلا إذا خلا الميدان من الرجال، فقد ورثوا عن أجدادهم القتال من وراء الجدران: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ}. وهم أذلة لا يستطيعون العيش إلا بحماية غيرهم: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ}.

  وعلمتنا غزة أن الجهاد سبيل العزة، وأنه (لا خير في حق إذا لم تحمهِ*حِلق الحديد وألسن النيرانِ).

وأن الإثخان في العدو ممكن مهما بلغت قوته، وأن طريقه الثباتُ والتوكل والمصابرة والبذل.

وعلمتنا أن اليهود لا يخشون إلا من الجنود المصلية، والجباه الساجدة، فهم المجاهدون حقا، أما أبطال موائد المفاوضات فهم في مأمن من اليهود، واليهود في مأمن منهم.

وعلمتنا غزة الفرق بين جهاد المؤمنين الصادقين وثباتهم، وبين هزائم جيوش النكبات والنكسات.

وعلمتنا غزة أن تواطأ الغرب على الأمة اليوم هو كحاله بالأمس وهكذا سيكون غداً، وأن عالم اليوم لا يحترم الضعيف ولا يقيم لتوسلاته وزناً، وليس لمناظر الأشلاء والدماء عنده معنى. 

وعلمتنا غزة أن لأبي رغال أحفادا في كل زمان، ينكشفون في الشدائد، وتَنزع الأقنعةَ عن وجوههم المصائب. وعلمتنا غزة أن لله بأعدائه كيدا {إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا}، فكلما أرادوا إطفاء جذوة الجهاد في نفوس الأمة تأججت من جديد، ومن حيث أرادوا إذلال المسلمين وتشتيتهم اجتمعت قلوب المسلمين حول غزة وأهلها المجاهدين، وأخزى الله الخائنين لأمتهم وازدادوا مهانة وخزيا وبغضا في قلوب المسلمين، ومن حيث أراد العدو إرهاب المسلمين بأسلحته الفتاكة ظهر عجز القوة المادية أمام قوة الإيمان واليقين.

وعلمتنا غزة أن الإعلام عندما يُسخر لخدمة قضايا الأمة فإن بوسعه أن يفعل الكثير؛ مِن بيان الحقائق وتثبيت المرابطين وفضح جرائم المعتدين وكشف النقاب عن الخائنين، وعلمتنا أن الأخذ بأسباب النصر من ضرورات بقاء الأمة وصمودها.

وعلمنا خذلان بعضهم لغزة أن الحلف الذي جمع اليهود والمنافقين في غزوة الأحزاب لا زال قائماً، وأن المنافقين على صلتهم القديمة باليهود وغيرهم من أعداء الأمة.

علمتنا غزة أنَّ هذه الأمة لم تمت ولن تموت، لأنها خُلقت لتبقى حتى يقاتل آخرها الدجال كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم.

وعلمتنا أن الوهن مهما بلغ بالأمة مبلغه فإنه يزول متى ما تهيأت أسباب زواله.

وعلمنا أبطال غزة معنى قول الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}.

وأما ما يرجف به البعض من أن أهل غزة لم يستشيروا غيرهم في هذه المعركة، فأحوال المسلمين لا تخفى، وتخاذلهم وتآمر بعضهم ظاهر للعيان، وكثير من أصحاب القرار غير مؤتمنين على مصالح الأمة.

وأما عن عدالة هذه المعركة فلا يشك في عدالتها إلا جاهل أو مكابر، فلدى الفلسطينيين من أسباب الثأر الكثير، منها الانتهاكات المتكررة للأقصى الشريف والتي تكاثرت في الفترة الأخيرة بسبب وصول مجموعة من الفئة الأكثر تطرفًا لمواقع مؤثرة، ومن الأسباب اعتقال اليهود لأعداد كبيرة من حرائر فلسطين وأحرارها، والتضييق على الفلسطينيين في معيشتهم وتنقلاتهم، وتشديد الخناق عليهم عاما بعد عام.

إن الأمة التي اختارها ربها لحمل أمانة التبليغ والهداية، والشهادة على الأمم، لن تزول، وسيبقى في كل زمان منها مؤمنون صابرون، ومجاهدون صادقون، وكرام باذلون، وغيورون صادقون؛ يهبون للنجدة، ويسعون لغوث المنكوبين في كل أزمة، ويبقي في أكناف بيت المقدس رجال باعوا أنفسهم لله. وتبقى في الشام عصبة مؤمنة ترفع راية الحق وترفع عن الأمة عار الوهن.

لقد كان مصاب أهلنا في غزة فادحا، أزهقت فيه أرواح وأُهلك فيه الحرث والنسل، فلا ينبغي لقادر أن يتأخر عن نجدة إخوانه وإغاثتهم وتخفيف آلامهم، فواجب الأمة نحوهم البذل بسخاء، شكرا لهم وثبيتا لأقدامهم، ونكاية في عدوهم.

ولا شك أن ثبات أهل فلسطين ثبات للأمة، وأن خذلانهم خطر على الأمة في دينها ودنياها، وفي حاضرها ومستقبلها، وأن البخل في مواقف البذل من أسباب الهلاك كما قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، وهذا عتاب ووعيد من الله جل وعلا لمن يبخل: {هَا أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين