غرور

الشيخ عبد الحميد محمود المسلوت

من العوارض البارزة والأحداث الظاهرة ما يطوف بالجماعات فيتغلغل في صفوفها ويتمكن بين أفرادها، ويلم بالأمة في غزوه المنكر ونزوله الملح، فتخضع فترة من الزمن لسطانه، وتعيش ردحاً من الدهر تترنح تحت وطأته، تتمرد عليه حيناً وتخبت له أحياناً.
تحاول أن تبعد عنه آناً وتستسلم لغواشيه المطبقة وطوفانه المغرق آناً آخر، حتى إذا قوي منها العزم، واستحصد لديها الحزم، ونفذت الإرادة، استطاعت أن تفلت من آصاره وتتخلص من قيوده.
وإلمام الظواهر التي لا تحب ولا تستساغ، أمر عادي يتسرب إلى الأفراد ويتفشى في الجماعات، ما دامت النوازع الإنسانية والأطماع البشرية والأهواء والشهوات تضطرم في النفس وتفور في الجسد.
ولكن الذي لا ترضاه العقول السليمة، ولا يطمئن إليه التفكير الصحيح، ولا تقره شريعة رب العالمين، أن نقع فريسة للعوارض المهلكة والأدواء القاتلة، والأمراض النفسية الخبيثة فلا نحاول التمرد عليها والخلوص من أوزارها.
قد يغفل الضمير أو تغفو المشاعر الإنسانية وتهجع في النفس قوة المراقبة فيدخل عليها الداء من حيث لا تقدر، ويتسرب إليها الوهن من حيث لا تشعر، ولكن العاقل الذي يحاسب نفسه لا يلبث أن ينتزعها مما يحل بها من آفة ويتسلط عليها من داء، ولعل هذا أبرز فارق بين البر والفاجر، فإن البر سريع الإفاءة إلى ربه، كثير الإقلاع عن ذنبه، شديد الندم على ما يبدو منه من مخالفة، أما الفاجر فهو دائماً سادر في لهوه، ممعن في غيِّه لا يوقظه إلا القوارع المجلجلة والمحن العاصفة.
إن الأفراد والجماعات لا تصاب بعلة مميتة وآفة لعينة مقيتة، تدمر نظامها وتحطم نتاجها وتفسد أمرها وتضعف الثقة فيها وتعدم التعاون بينها، مثل آفة الغرور فهو أساس كل شر ومصدر كل فساد وسبب كل هلاك، وما أحبط أعمال الناس وأصارها إلى الإمحال والجب ومكن بينهم العداوة والبغضاء ودعا إلى الخصام والشحناء وأشاع الذعر والخوف والاضطراب إلا داء الغرور حين يستولي على النفوس ويستبد بالقلوب، فيحوِّل مودَّتها إلى عداوة وصفاءها إلى كدر وإخلاصها إلى ضغينة وحسد.
يغتر المرء بجهده وعمله ويخدع جاهلاً في كفايته وقدرته، ويخيل إليه الوهم الكاذب والسراب الخادع والعقل الخائر والتفكير الضحل أن قوته فوق القوى، وقدرته لا توازيها قدرة، هو في نفسه عالم يفقه أدق مشاكل العلم وأعقد مسائله، وهو سياسي يدرك من خفايا السياسة الداخلية والخارجية ما يستعصى على الآخرين، وهو بين الأدباء أديب بارع الفكر، رائع الخيال، هو في كل شيء أشد الناس فهماً وأصدقهم حكماً وأنفذهم نظراً وأعمقهم غوراً وأسماهم فكراً، لا يقبل في ذلك جدلاً ولا مناقشة، وبهذه الفكرة الخاطئة والنظرة الباطلة، والوهم الكاذب لا يمكن أن يلتقي بالناس في عمل مشترك أو تعاون مفيد، وهل يلتقي في نظره السقيم الثرى بالثريا أو يجتمع الخامل والعبقري.
ويدعى إلى سلوك طيب يكون له وللناس فيه خير، فتأبى عليه نفسه وينفر طبعه وبداخله الحنق والغضب لأن سلوكه فيما يرى أقوم سلوك وأدبه أرفع ومقامه أسمى من أن يتطاول إليه نصح أو توجيه وقبح الله الغرور.
ويراد على الإحسان في عمله والإجادة في إنتاجه، فيستفزه الغضب وتستثيره الحدة لأن عمله أحكم صنعاً، وأدق أداءً وأعظم من أن يتطاول إليه متطاول.
ويفسد في الأرض ويستسلم لنزوات الشر ودوافع الإثم وتمتد عينه ويده إلى ما حرم الله عليه، فإذا وجه إليه نقد أخذه الحقد واستبد به الغرور لأنه عند نفسه فوق أن يخضع لنقدات الناقدين.
وهكذا يدخل الفساد على الأمة ويتسرب إليها الداء ويبدأ فيها الشر والعوج، كل فرد أمة وكل شخص دولة: فهو مستقل في رأيه مستبد بفكره، لا سلطان لأحد عليه ثم يجيء بعد ذلك الضلال في الرأي والخطأ في التقدير والتخبط في السلوك، لأن ما استقر في النفوس من الغرور قد أفسدها وأظلم آفاقها، فلم يعد أحد يصغي إلا لما تهتف به شهوته وتضطرم فيه نزوته وينزع إليه هواه.
وهكذا يتداعى بناء المجتمع وتضطرب أركانه و تختل موازينه وتتضاءل قوته وتنحل عروته بما يشيعه الجاهلون من فساد، وما يأتيه المغرورون من حمق.
إن في الغرور ادعاء واجتراء: ادعاء يسلب الإنسان وقاره الخلقي وحليته النفسية، واجتراء يثير في الأنفس الحقد علىا لناس والضغينة بينهم فيقطع ما اتصل من أسباب المودة ويفسد ما صلح من عوامل الألفة، ويهدم ما يقوم من رغبة في التعاون والجهاد في هذه الحياة.
ولقد أراد الله تعالى لهذه الأمة القرآنية أن تعيش سليمة من الآفات بريئة من الأدواء والعلل، وأن تتربى تربية نفسية لا يداخلها شوب من الفساد، ولا عامل من الانحلال، فحذرها الله جل شأنه بما شرع من آداب واستن من سنن، أن تستسلم لداء أو تخضع لآفة.
ولقد قال جل شأنه:[ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ] {فاطر:5}.
ثم أشار جل شأنه إلى أن مصدر هذه الآفة تأميل في طول عيش، أو طمع في طيبات الحياة وزينة الدنيا، أو رغبة في الاستمتاع بنعمة الولد وهكذا فقال:[إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] {لقمان:34}.
يجب أن نعالج ما يعترينا من نقائص، وما يتفشى بيننا من أوزار، ويجب أن نربي أنفسنا على ما يلتمع في تاريخنا من روائع الصور وبارع الأمثلة التي كتبت هذا التاريخ وبنت ذلك المجد، وليعلم أولئك الذين يخفقون إلى الاقتداء في الشر ويسرعون إلى الاحتذاء في الضرر، أن الإتباع في الخير والاقتداء بمن مضوا من سلفنا الصالح يغرس فينا الفضيلة ويسددنا نحو النهج القويم.
لقد كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حريصاً أشد الحرص على أن يكسر نخوة نفسه، وأن يستل داء الغرور من كل من يحيط به، فهو الذي أمر المصري أن يضرب ولد عمرو بن العاص وأمره أن يضع الدرة على صلعة عمرو ليذهب ما عسى أن يكون قد داخله من خيلاء الحكم وكبرياء السلطان، وكان رضي الله عنه يحاول دائماً أن يقتل مافي نفسه من نخوة ويطرد ما يمكن أن يساورها من وسواس.
يقول عروة بن الزبير رضي الله عنهما: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين إنه لا ينبغي لمثلك هذا، فقال: أنه لما أتتني الوفود سامعة مطيعة مهادنة دخلت نفسي نخوة فأحببت أن أكسرها، ومضى بالقربة إلى حجرة امرأة من الأنصار فأفرغها في إنائها.
ويروي الأحنف بن قيس أنه كان بصحبة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إن فلاناً ظلمني فأعدني عليه، فرفع درته وضرب بها رأسه، وقال تدعون عمر وهو معرض لكم) حتى إذا شغل في أمر المسلمين أتيتموه، تقولون أعدني.
فانصرف الرجل متذمراً فقال عمر: عليَّ بالرجل، فجيء به إليه، فألقى إليه الدرة وقال له: اقتص! فقال: بل أدعه لله وإرادة ما عنده، وانصرف.
يقول الأحنف: ثم جاء عمر فدخل منزله و نحن معه فصلى ركعتين ثم جلس، وقال: يا ابن الخطاب كنت وضيعاً فرفعك الله، وضالاً فهداك الله، وذليلاً فأعزَّك الله، ثم حملك على رقاب الناس فجاء رجل يستعديك على من ظلمه فضربته، ماذا تقول لربك غداً ؟ فجعل يعاتب نفسه أشد المعاتبة.
ويقول رجاء بن حيوة: كنت ليلة عند عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو خليفة فضعف المصباح فقام رجل ليصلحه فقال: اجلس، فليس من الكرم أن يستخدم المرء ضيفه.
ثم قام بنفسه فأصلح السراج، فقال رجاء: أتقوم إلى السراج وأنت أمير المؤمنين؟ فقال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز بمثل هذه السير النقية والأخلاق الطاهرة والآداب الكريمة تعز الجماعات وتسعد الأمم.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة الأزهر مجلد 24 شوال 1372هـ الجزء العاشر.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين