غرس الجد في نفس الناشئ

غرس الجد في نفس الناشئ

أساليب تربوية ومفاهيم دعوية من حياة الشيخ أحمد عز الدين البيانوني

د. عبد المجيد أسعد البيانوني

 

أسّ المنهج التربويّ ومزاجه: أسّه غرس الجدّ في نفس الناشئ، ومزاجه الترويح عن النفس بين الحين والآخر، بصورة تذهب عن النفس سأمها ومللها، وتجدّد نشاطها للجدّ والعمل.

التربية معادلة دقيقة، لا يتقنها أكثر الناس، لأنّ طبيعة أكثر الناس جانحة نحو الإفراط أو التفريط، والتبرير لذلك في نظرهم سهل ميسور.. إنّه عند بعضهم: شدّة الغيرة والحرص على نجاحه في تربية أولاده.. أو ضرورة الرفق والتيسير على الناس، وحسن السياسة للنفوس عند الآخرين.. وإذا كانت فضيلة الأخلاق بين رذيلتين، فما أعون ذلك للمرء على تحديد مساره بدقّة، وإبعاده عن كلا طرفي قصد الأمور..

وإنّ أخطر أمور التربية وأدقّها ما ترك آثاراً بعيدة في نفس الناشئ، فكان سبباً في هدايته واستقامته، أو زيغه وانحرافه، ومع ذلك فكثير من الآباء والأمّهات والمربّين لا يلقون لذلك بالاً، ولا يعيرونه اهتماماً..

ومن هذه الأمور: معادلة الجدّيّة والترويح عن النفس، فلا يخفى أنّ الجدّيّة هي الأصل والهدف في الحياة، ولكنّها لن تغرس في نفس الناشئ إلاّ بالرفق والتلطّف، والحكمة وحسن التصرّف، ولكلّ سنّ ما يشغله ويناسبه، وذلك يقتضي من المربّي: أن يأخذ الناشئ بالترويح عن النفس بين الفينة والأخرى، فإنّ ما يعين على الجدّ لا يخرج عنه، وإنّ القلوب إذا كلّت عميت، كما يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

بل إنّ الترويح عن النفس قد يكون نوعاً من العبادة، يؤمر بها الإنسان، ويؤجر عليها، إذا بلغ به الجدّ حدّ الملالة والسأم، والانقطاع عن صالح العمل، فإنّ لنفسك عليك حقّاً كما جاء في الحديث الصحيح..

يقول الإمام الغزاليّ رحمه الله: " وينبغي أن يؤذن له ـ أيّ للصبيّ ـ بعد الانصراف من الكتّاب أن يلعب لعباً جميلاً، يستريح إليه من تعب المكتب، بحيث لا يتعب في اللعب، فإنّ منعَ الصبيّ من اللعب، وإرهاقه إلى التعلّم دائماً يميت قلبه، ويبطل ذكاءه، وينغّص عليه العيش حتّى يطلب الحيلة في الخلاص منه رأساً " [إحياء علوم الدين 3/73/].

ومع ما عرف به الشيخ رحمه الله من الجدّيّة والعزيمة، حتّى إنّ من لم يعرفه يحسب أنّه لا مكان في حياته لشيء من الفكاهة والدعابة، والمزاح والترويح عن النفس، ولكنّ الحقيقة غير ذلك، فإنّ شخصيّته وحياته كانت تقوم على التوازن والاعتدال، وإعطاء كلّ وقت وحال، وكلّ ذي حقّ حقّه.. ويسع كلّ من عرف الشيخ أن يشهد أنّ مجلسه كان مجلس أنس ومباسطة لجليسه، بصورة تدخل البهجة على أهل المجلس كلّه، مع لطف في الحديث وظرف، وتقدير رفيعٍ لمشاعر الآخرين، وسموّ في المزاح والمداعبة، بما لا يزيد جليسه إلاّ محبّة وتقديراً..

كان هذا في حياته العامّة مع الناس، وأمّا في سلوكه التربويّ مع أبنائه وإخوانه، وتلامذته وطلاّبه فقد كان للترويح عن النفس مساحة منه مقدّرة، كان يلتزم بها، ويحافظ عليها كما يلتزم بمنهج الجدّ في الجانب الآخر، ولا يفرّط به، لأنّه يراها عوناً على الجدّ، لا ينبغي أن يتجاهل أو يستهان به.. وهذا سرّ نجاحه رحمه الله، واستجابة أبنائه وإخوانه لمنهجه، وبلوغه ما أراد من الأهداف..

بينما نرى بعض الدعاة والمربّين، قد يختلّ هذا التوازن في فهمه وسلوكه، فتأخذه الحماسة للحقّ، والحرص على الخير، فيحاسب الناشئ بما لا يحاسب عليه الكبير، ويسلك سبيلاً لا يبلغ به مع من يربّيه سوى عكس مقصوده، فيعود باللوم على الناشئ، ويكثر من التوبيخ والتقريع، وأنّه لا خير فيه، وأنّه وأنّه.. وهو أحوج من ناشئه إلى اللوم والتوجيه..

وأذكر أنّ بعضهم أكثر من لوم ولده أمامي على ما لا يلام عليه من كان في مثل سنّه، فأشرت إليه بلطف أن يرفق به، فسيكون منه خير بإذن الله، فزاد صاحبنا في لوم ولده وتقريعه، فقلت له ممازحاً: يا فلان ! حدّثنا عن صباك يوم كنت في مثل سنّ ولدك! وبادرته قبل أن أسمع جوابه: {كَذلِكَ كُنتُم مِن قَبلُ فَمَنّ اللهُ عَلَيكُم} النساء (94). فاستحيا الرجل وسكت!

فمن الأساليب التربويّة التي اتّخذها الشيخ للترويح عن النفس: الاهتمام بالخروج في الإجازة الصيفيّة إلى المصايف الهادئة البعيدة عن صخب المدينة وضوضائها، وازدحامها بالناس، لتحقيق العزلة عن الفساد، والتفرّغ لتربية أولاده ورعايتهم، فلم يكن غرضه في الاصطياف الاختلاط بالناس على ما هم عليه، ومشاركتهم في تفلّتهم ومنكراتهم.

وكان يشجّع أولاده على أنواع الرياضات الهادفة، وحدّثنا مرّات عن محبّته لكرة القدم في نشأته وشبابه، ولولا كشف العورات فيها لما توانى عن المشاركة فيها، وقد علّم أولاده السباحة بنفسه حتّى مهر أكثرهم فيها..

ولقد كان سبّاحاً ماهراً، فكم كان يسابق الشباب في الرحلات، ويسبق كثيراً منهم، وهو في سنّ الشيخوخة، وهم في سنّ أولاده..

ومن بواكير حياته كان يخرج بأولاده كلّ أسبوع مرّة على الأقلّ، إلى ضواحي مدينة حلب وأطرافها، وهم أطفال صغار، ويختار لهم الألعاب الهادفة المنشّطة، ويشرف عليهم في لعبهم ويحمّسهم، ويشاركهم فيه وينافسهم، كما حدّثني بذلك من رآه بنفسه.

وكان من توجيهاته لإخوانه: الالتزام بالرياضة كلّ يوم عشر دقائق على الأقلّ، وكان يحاسب عليها الشابّ، كما يحاسب على فضائل العبادات والأعمال، وكان يشارك بنفسه في النشاطات الرياضيّة في المخيّمات الصيفيّة.

ومع وضوح هذه المعاني وبداهتها في مفاهيم الإسلام وتعاليمه، فلا يزال وللأسف من يركب بتلامذته وإخوانه مركب الجدّ الصارم، ويجعل ذلك منهجهم وديدنهم، حتّى يميت قلوبهم، ويدفعهم إلى العزلة عن الحياة، والانزواء عن الناس.. ويظنّ أن ذلك من الكمال وحسن التربية..

التربية على الجدّ في الأمور، والبعد عن الهزل في مواطن الجدّ، فالجدّ من مؤهّلات الرجال إلى عظائم الأعمال.

المبدأ السابق في ميدان التربية، وهذا في ميدان الدعوة، ذلك أنّ المبدأ السابق يتحدّث عن التربية للناشئ، وهو ما يكون في مرحلة الطفولة وما بعدها، ممّا يقتضي التدرّج في التربية، ومراعاة متطلّبات النموّ وخصائصه، وأمّا هذا المبدأ فهو لمن بلغوا مبلغ الرجال، وتأصّل المبدأ في نفوسهم، بحقائقه ومتطلّباته، واتّصلوا بدعوة الحقّ عن فهم ووعي، وأدركوا المسئوليّات الكبرى التي تنتظرهم، فهل يليق بأمثال هؤلاء أن تكون حياتهم قائمة على الهزل والضحك، ويغلب عليها الدعابة والمزاح، ويشغلوا أنفسهم بالتفنّن في ابتكار طرائفه والتحدّث بها ونشرها.؟!

إنّ تغليب الجدّ في الأمور، ومجانبة الدعابة والهزل، ولا سيّما في لقاءات الإخوة الدعويّة الهادفة، يعدّ من كمال عقل الأخ ووعيه، فالحياة جدّ، والدعوة إلى الله تعالى جدّ، والجدّ من مؤهّلات الرجال إلى عظائم الأعمال، وكثرة الدعابة من البطالة، والضحك خفّة، والهزل هزال، وكلّ ذلك لا يعطي ثمرة، ولا يؤدّي إلى خير.

والحقّ أنّ المزاح ينبغي أن يكون مقيّداً نوعاً وقدراً، ليكون مشروعاً لا حرج فيه، وقد كان الشيخ يقدّره بمثل الملح للطعام، فكيف إذا زاد مقدار ملحه فإنّ الطعام لا يستساغ مهما كان مستلذّاً من قبل، فكذلك كثرة المزاح.. يفسد حياة الداعية، ويحرف مسارها، ويعطّل مصالح الدعوة، ويخرّب أعمالها..

إنّ كثرة الضحك تميت القلب، وأيّ خير يرتجى من وراء القلب الميّت.؟ وإنّ الإسراف في المزاح يضعف شخصيّة الداعية، ويوغر صدور الناس عليه، ويذهب هيبته واحترامه من قلوبهم، وربّما استجرّ صاحبه إلى الكذب من حيث يشعر أو لا يشعر..

ومن الآداب التربويّة الرفيعة التي كان يؤكّد عليها: ألاّ يمزح الصغير في حضرة الكبير، وألاّ يمازح الصغير من هو أكبر منه، وهذا أدب يغفل عنه أكثر الناس، ولا ينتبه إليه كثير مِن المربّين.

وكان رحمه الله ذا هيبة عظيمة، فكان يمازحنا في بعض الأحيان، ليزيل ما يرى في نفوسنا من شدّة هيبته، ولا تراه مع الناس عموماً إلاّ هاشّ المحيّا، مبتسماً في وجه من يلقاه..

وحدّثني بعض المشايخ فقال: " لقد رأيت الشيخ مرّة واحدة في حياتي، فرأيت له هيبة كبيرة، ورأيت في وجهه علائم الجدّ والحزم، فقلت في نفسي: إنّ هذا الشيخ لا يعرف الهزل إلى نفسه سبيلاً ".

إنّها صفة نبويّة كريمة: " من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبّه " [ رواه الترمذيّ في الشمائل عن عليّ رضي الله عنه في وصفه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.]

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين