غرس الثقة في نفس الناشئ

غرس الثقة في نفس الناشئ

أساليب تربوية ومفاهيم دعوية من حياة الشيخ أحمد عز الدين البيانوني

د. عبد المجيد أسعد البيانوني

 

غرس الثقة في نفس الناشئ، ورعايته ما أمكن، ورفع شأنه عن طريق: الحوار، والتشجيع، والحثّ على البحث والتفكير، والإثارة العقليّة والعاطفيّة المناسبة.

إنّ الطاقات الكامنة في الناشئ لا يمكن لأحد أن يقدر قدرها، ويعرف مداها وغايتها، فكان حقّاً على المربّي البصير الواعي أن يكون واسع النظر، عظيم التفاؤل، يحرص على استنهاض همّة الناشئ، ويغرس فيه الثقة بالنفس، ويشجّعه على إبداء رأيه، والجرأة الأدبيّة في المواقف، والمشاركة في الحوار بشروطه وآدابه، فيما يهمّه، أو يهمّ الشأن العامّ.. إذ إنّ كثيراً من الناشئين لقلّة خبرتهم بالحياة، ومحدودِ تجربتهم، يسارع اليأس إلى قلوبهم عند أدنى إخفاق يواجهونه في حياتهم، أو ينكصون على أعقابهم عند أوّل عقبة تعترضهم.. فكان من حكمة المربّي وخبرته ألاّ يترك القلق والاضطراب يعتمل في نفس الناشئ، ويسيطر على مشاعره، ثمّ يتجلّى في اتّخاذه الموقف السلبيّ، الذي ينعكس على مستقبله، وقد يكون له أسوأ الآثار في حياته..

وما أكثر الذين لم يجدوا في نشأتهم الأولى تلك اليد الحانية، التي تَربِتُ على أكتافهم، والبسمة المعبّرة التي تضيء الأمل في جنبات نفوسهم، والعقل الناصح الذي يمدّهم بالفكرة الناضجة، والتأييد الدافع لهم إلى تحمّل مشاقّ الحياة ومحنها.. فذوى الأمل في أنفسهم، وتحطّم الطموح في زوايا هممهم، قبل أن يأتلق في دنياهم، وتبتهج به حياتهم، وتراجعت قواهم الفكريّة المتوثّبة، وانحسرت طاقاتهم الحيّة ومواهبهم، حتّى تقوقعت في زاوية كئيبة مهملة، وركن من أركان الحضيض والعدم..

وإنّنا لا نستطيع، كما لا يستطيع أحد من الناس أن يتصوّر: ماذا يكون عليه هؤلاء؟ وماذا تكون عليه الحياة معهم؟ لو كُتب لهم أن يروا تلك اليد الحانية في نشأتهم الأولى.؟! التي تسدّد أفكارهم، وتضع أقدامهم على السبيل القويم.. وربّما لم يكن مطلوباً من تلك اليد الحانية سوى عمل يسير، ربّما كان كلمة، وربّما كان بسمة، وربّما كان موقفاً واحداً، إنّه حقّاً لا يكلّفها شيئاً كبيراً، ولكنّه يعني الكثير الكثير في حياة الناشئ وتوجّهاته، وفي مسيرته ومستقبل أيّامه..

وإنّ قلّة من الناس الذين يستطيعون مسح الظروف السلبيّة التي تمرّ بهم وتجاوزها، وأكثر الناس لا تزال تعتمل في نفوسهم، ويذكرونها بغاية المرارة والأسى، بل إنّهم ليبالغون في تصوير مأساتهم بها بصورة تدعو إلى الإشفاق والحزن، وكلّ ذلك يصدّق ما نقول ويؤكّده..

لقد كتب لي أن أعيش هذه التجربة بوجهيها: الإيجابيّ والسلبيّ، وعرفت آثارهما في كلا الوجهين، ولمستهما بنفسي، وأكتب ما أكتب اليوم عن تجربة ومعاناة ومعايشة، ولن أتكلّم عن التجربة من وجهها السلبيّ، فالمقام لا يناسب الحديث عنها، وحسبي أن أتكلّم عنها من وجهها الإيجابيّ، إذ هو يتّصل بالشيخ رحمه الله، ولا يخرج عنه..

لقد قويت عزيمتي وأنا في المرحلة المتوسّطة على أن أتحوّل إلى دراسة العلوم الشرعيّة في الثانويّة الشرعيّة، وطلب منّي أن أدرس ما فاتني ممّا درسه الطلاّب لأختبر به في نهاية الصيف، وكان أصعب ما واجهني منهج النحو والصرف، الذي كان يزيد عن المنهج الذي درسته بثلاثة أضعاف على الأقلّ، ولو تقدّمت للاختبار به لما نجحت قطعاً.. ولم أجد من حولي من يأخذ بيدي، أو يُبدي نحوي شيئاً من المساعدة والعون، وكانت بداية معرفتي بالشيخ رحمه الله.. وسألني باهتمام عمّا أدرس، فأخبرته، ولكنني لم أبد له أيّة صعوبة ممّا يواجهني من منهج النحو والصرف، منعني منه الحياء ..

وبعد يوم أو يومين أرسل لي مع بعض أولاده يقول لي: " إن كنت تطلب أيّة مساعدة في دراسة النحو، فأنا على استعداد أن أجلس معك كلّ يوم ما بين المغرب والعشاء ".. ووجدت هذا العرض في غاية الأريحيّة، وكأنّه عرض المنقذ للغريق في اللحظات الحرجة، وحضرت إليه ما بين المغرب والعشاء أيّاماً معدودة.. كان فيها شرح ما أشكل عليّ من أوّله إلى آخره.. ولا زلت أشعر بالاستغراب والدهشة لما حدث، ولا يزال يرتسم في مخيّلتي الشعور العارم بالإعجاب بهذا الرجل العظيم، على ما رأيته منه من جوانب العظمة الأخرى بعد ذلك، لهذا الموقف الذي رأيته منه، ولن أنساه ما حييت.. شيخ يعرض عليّ المساعدة، وأنا في مثل سنّ بعض أولاده، وخلال تعليمه رأيت منه من التشجيع وبثّ الثقة ما حفز همّتي إلى الدأب والمثابرة، وفي الوقت نفسه رأيت من غيره التثبيط، وزرع اليأس وتعهّده، بما لا أكاد أصدّقه إلى هذا اليوم.!

وكم في طلبة العلم اليوم من يأتيه طالب العلم راغباً ملحّاً، فيعتذر إليه، ويعرض عنه.؟! فضلاً عن أن يعرض عليه مساعدته وخدمته.! ولكنّه الصدق في الشيخ في الغيرة على الإسلام، والرغبة في خدمة أبنائه.. لقد حدّد مسار حياتي هذا الاختبار، ولعلّي لو لم أنجح فيه لما كُتبت لي دراسة العلوم الشرعيّة، وكنت في اتّجاه آخر..

ولم يزل يعتمل في نفسي هذا الموقف، فيزيدني إعجاباً بالشيخ وتقديراً، حتّى كتبت وأنا في السنة الأولى من كلّيّة الشريعة أفكاراً وتصوّرات عمّا سمّيته: " نظرية الاحتواء التربويّ في العمل الإسلاميّ "، ولست أدري ما فعلت الأيام بتلك الأوراق.؟!

وعندما أخذت عن الشيخ دروساً في الفقه الشافعيّ مع بعض الإخوة، وأملى علينا أمالي من تأليفه، كان قبل أن يقرّر أكثر المسائل يدعونا إلى التفكير فيما يمكن أن يكون رأي السادة الشافعيّة في هذه المسالة، ويشجّعنا على إبداء رأينا، ولا يدعنا نقول ما قلنا، بل يطلب منّا أن نعلّل وجهة نظرنا، حرصاً منه رحمه الله على تنمية ملكتنا الفقهيّة، وألاّ نتلقّى العلم بغير وعي وبصيرة..

ولا ننسى ما كان لترغيب الشيخ لنا من أثر بالغ في أنفسنا وحياتنا العمليّة، عندما كلّفنا وشجّعنا على الحديث في المجالس، وفي حضرته، وحثّنا على الإمامة والخطابة، تهييئاً لنا لتحمّل مسؤوليّات الدعوة وأعبائها، فجزاه الله عنّا وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين