الموجز في التاريخ: عين جالوت (658 هـ)

     أدرك قطز بعد توليه عرش مصر، أن بقاء دولته الفتية منوط باجتياز هذا الاختبار الصعب، المتمثل بالتصدي للغزو المغولي، الذي بات على مشارف مصر؛ فأجرى بعض الإصلاحات والتغييرات في المناصب الإدارية والقيادية في دولته، وأصدر عفوًا عامًا عن كل المماليك البحرية، واستقدمهم من الشام([1])، وسعى لإذابة الخلافات بينه وبين الأيوبيين في الشام، فاستجاب له بعضهم وأبى آخرون، كما استطاع بمراسلته الصليبيين تحييدهم عن معركته القادمة مع المغول، وبذلك أصبحت مصر متأهبة لمواجهة المغول.

     أرسل هولاكو إلى قطز رسالة تهديد ووعيد، يطلب فيها تسليم مصر إليه دون قتال، وكانت هذه الرسالة تحدٍ كبير لآخر قيادة إسلامية، يتوقف عليها مصير الإسلام وحضارته؛ فعقد قطز مجلسًا استشاريًا، استمع خلاله لآراء الأمراء والقادة، فاختلفت أقوالهم ومواقفهم، فمن قائل: لا طاقة لنا بقتال المغول، فمملكتهم ممتدة من الصين إلى فلسطين، ولا مناص من مصالحتهم، ومن قائل: إمَّا أن نُسلم بلادنا إليهم، أو أن نرحل إلى المغرب، وكان رأي القائد بيبرس أن يخوضوا الحرب معهم، وقال: إنِ انتصرنا فبفضل من الله، وإن كانت الأخرى مُتنا كُرماء، وهذا ما اختاره قطز، وكانت الحرب.

     عمد قطز إلى رسل المغول فقتلهم، وعلَّق رؤوسهم على أبواب القاهرة؛ ليقطع بذلك كل مجالٍ للتردد في خوض الحرب؛ قائلًا للناس: لن يقبل منا المغول الصلح بعد هذا الفعل، حتى لو طلبناه منهم، ولا نستطيع الرحيل إلى المغرب لبعدها عنَّا، فما لنا إلا الحرب، فاستعدوا لها، وكان للعز بن عبد السلام موقفٌ عظيم في هذه الحرب، حيث أخذ يحرِّض الناس على الجهاد، فاستعد المسلمون لها أيَّما استعداد.

     اتبع قطز استراتيجية جديدة لمواجهة المغول، بعد أن رأى أن مجرد الدفاع والتمترس داخل المدن لا يكفي، كما فعل المسلمون سابقًا، من الخوارزميين وغيرهم ممن اكتوى بنار المغول، بل لا بد من المواجهة والمنازلة؛ فاختار لذلك النزال مكانًا مناسبًا على أرض فلسطين هو عين جالوت، وجعل على قيادة الجيش: القائد بيبرس، وبعد أن تجمعت حشود الجيوش الإسلامية عند قطز؛ أرسل كتيبة بقيادة بيبرس إلى غزة لقتال الحامية المغولية فيها، فاشتبك بيبرس معها، وأوقع بها هزيمة نكراء، كانت أول معركة ينتصر فيها المسلمون على المغول، كما كان لها وقعٌ حسنٌ في نفوس جيش المماليك، حيث كانت مقدمةً للمعركة الكبرى.

     في الخامس والعشرين من شهر رمضان، عام:(658 هـ)، وصل قطز بجيشه إلى عين جالوت، وكان يدرك تفوق جيشه على جيش المغول في العدد؛ لذا أخفى عنهم قواته في التلال المحيطة، ولم يعرض إلا مقدمةَ جيشه، ليستدرجهم قائدُها بيبرس بتقهقره إلى التلال المحيطة، فاشتدت مطاردة المغول لهم، ووقعوا بذلك في فخ قطز، فأحاطت قواته بالمغول، وهناك دارت معركة عين جالوت.

     اضطربت قوات المماليك بداية المعركة، وانكسرت ميسرتهم كسرة شنيعة، فأردف قطز الميسرة بنفسه، وحمل بعساكره على المغول حتى جبر كسر ميسرته، وأخذ يصيح في الجيش قائلا: وا إسلاماه، ويدعو الله، ويكبِّرُ في المسلمين، حتى كُسر المغول فتراجعوا، ثم تجمَّعوا أخرى، فهزمهم المسلمون، وقتلوا أكابرهم، ونزل بعدها قطز عن فرسه، وصلَّى ركعتين، ومرَّغ وجهه في التراب، ودعا الله تعالى، وكبَّر في المسلمين، ثم تجمَّع المغول ثالثة، فكان لهم بيبرس بالمرصاد، وهاجمهم بكل شجاعة وثبات، حتى أنزل الله نصره على المسلمين، وهزم المغول، وغنم منهم بيبرس أموالًا عظيمة، وأسر منهم من أسر، وكان ممن وقع في الأسر: قائد المغول: (كتبغا)، فقتله قطز، وزال بذلك خطر المغول، ثم تبع قطز فلولهم، حتى دخل بجيشه دمشق، فاستتب الأمن فيها وعمَّ.

     لم يكتفِ قطز بكل ذلك، بل أرسل مقدمةَ جيشه بقيادة بيبرس لتتبُّع الفارين من المغول، واستطاع بيبرس في بضعة أسابيع تطهير بلاد الشام من رجسهم، حتى أوصلهم إلى أعالي بلاد الشام من الجزيرة الفراتية، وأعلن بعدها قطز توحيد بلاد الشام ومصر في دولة واحدة تحت زعامته، خُطب له على منابرها، وقد نزلت هزيمة المغول على رأس هولاكو كالصاعقة، فحاول بعدها أن يمحو هذا العار، بإرسال حملة مغولية جديدة إلى بلاد الشام؛ لكن الظروف لم تمكنه من ذلك؛ لانشغاله في حروب منافسيه على السلطة، ومات عام: (663 هـ) دون أن يحقق حلمه، بضم مصر والشام إلى مملكته.

     تعد معركة عين جالوت الحدث الأبرز، الذي مكَّن أيدي المماليك في الحكم، ارتفعت بعده أسهمهم في أعين المسلمين، وأعادوا بها للإسلام هيبته ومكانته أمام الدول، واستطاعوا توحيد مصر والشام في دولة واحدة، والقضاء على كل منافسيهم على الحكم من الأيوبيين وغيرهم، وأنقذوا العالم الإسلامي من خطر عظيم؛ بل لقد أنقذوا أوربا من شر المغول، إذ لو تمكن المغول من مصر، ومن الشمال الإفريقي؛ لتمكنوا من عبور الطريق التقليدي إلى أوربا([2]).



([1]) كانت قد وقعت فتنة، زمن السلطان المملوكي الأول: عز الدين آبيك، بين المماليك المعزية –نسبة إليه- والمماليك البحرية -التي أنشأها نجم الدين الأيوبي- أدت لقتل زعيم المماليك البحرية فارس الدين أقطاي، بعد أن كان يطمح للوصول إلى السلطة، وبعد قتله فرَّ أكثر أنصاره إلى الشام، وعلى رأسهم القائد بيبرس البندقداري، ثم عفا عنهم قطز، واستقدمهم؛ ليكونوا من جنده في حربه على المغول، ينظر: المصدر السابق، ص: 78.

([2]( ينظر المعركة بتفاصيلها: الصلابي، السلطان سيف الدين قطز، مصدر سابق، ص: 107، وينظر: السرجاني، قصة التتار، مصدر سابق، ص: 243.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين