عيد الجلاء 17 نيسان صور من الذاكرة

 

احتفالات في عام 1960

ومن سنوات سبقت ذلك التاريخ

* رجعت بي الذاكرة إلى سنوات ارتفع عددها لأكثر من خمسين سنة ، لا أدري سبب هذا الرجوع الزمني !! هل ذاكرة الفتيان أشهر تصويراً و أدق تعبيراً و أكثر انفعالاً وأروع عاطفة ؟ هل للجمال سحره ؟ هل للصدق سهامه ؟ هل للحرية ملاعبها ؟ أكرر .. وأقول .. لا أدري ...!!

* الحرية نبع القلب ، من دفن الحرية فقد دفن قلبه ، فرنسا المستعمرة دفنت السوريين في بيوتهم وفي شوارعهم ، فرنسا طغت وبغت ، وكان الجنرال الفرنسي بيده مفاتيح الظلم .

واسترد الشعب السوري كرامته في 17 نيسان 1946 .

* عندما يشرق شهر نيسان ، ويتقدم على فرسه شاهراً سيف جماله ، ينحني شهر آذار ويلف عباءته على يده ، ويهرب مع ظلمة الليل ، من بداية ذلك الصباح تبدأ الاستعدادات للاحتفالات بعيد الجلاء شعبياً و رسمياً ، فالمدارس تكاد الدراسة أن تتوقف لأن فرق الكشافة و اللاعبين سيشاركون في المهرجانات و الاحتفالات ، و الطلاب المشاركون يحتاجون إلى تدريب ، و هناك عدة تجارب لصلاحية المهرجان (بروفات ) ، المدارس الابتدائية للبنات لديها فرق كشفية تشارك في العرض تسمى ( مرشدات ) ، مدينة حلب لا يزيد سكانها في ذلك الوقت عن ( 600 ) ألف ، بينما عدد سكانها الآن يتجاوز ( 3 ) ملايين ، وكان في حلب ( 3 ) مدارس ثانوية للبنين وثانويتان للبنات .

* الآباء والأمهات في تلك الفترة الزمنية رأى كل واحد منهما المستعمر الفرنسي ، ويروي قصصاً عن ظلمه وبطشه بالأحرار ، وتكثر السهرات في تلك الفترة والناس يتناقلون بطولات المجاهدين أمام الجيش الفرنسي المستعمر ، المجتمع بالكامل ينصهر بالوطنية وحب الوطن . وتتعالى النشوة بالأمجاد والبطولات ، كثير من أفراد الأسر شارك في مقاومة المستعمر الفرنسي .

الأب لا يمنع أولاده من المشاركة في مهرجان عيد الجلاء ضمن الفرق الرياضية  والكشفية  للمدرسة ، وتأخذ الأم موافقة زوجها المتعصب في خروج زوجته للأسواق ، لأنها تريد أن ترى ابنها أو ابنتها في المهرجان في قوافل المدارس ، والزوج يوافق لزوجته بالخروج لأن عيد الجلاء مناسبة وطنية غمرت قلوبهم بالحرية ، وتمني الأم أولادها الصغار ولو كان عمر الواحد ثلاث سنوات أو أكثر بأنها ستأخذه من الصباح ليشاهد العروض الجميلة ، سكان العمارات التي سيمر من أمامها فرق المهرجان يقومون بدعوة أقاربهم إلى المجيء عندهم من الصباح لرؤية المهرجان ، حتى يبتعدوا عن الوقوف في الشوارع ، صباح يوم عيد الجلاء الحافلة (الترام) واسطة النقل لا تتحرك من بيتها ، فطريقها من السراي الجديدة إلى الجميلية تتوزع فيه الفرق المشاركة بالمهرجان ، الباعة المتجولون يجهزون أنفسهم ، في هذا اليوم يتضاعف بيعهم و تزداد مكاسبهم .

* في صباح يوم 17 نيسان ، تستيقظ المدينة باكراً منذ الفجر ، تأخذ الفرق العسكرية والكليات العسكرية والقطع العسكرية مواقعها ، وكل فريق مشارك في المهرجان يحتل موقعه .

هناك تجمعان للفرق المشاركة ، أحدهما بدايته من عند مخفر باب الفرج ونهايته عند السراي الجديدة ، والآخر بدايته من بداية التلل عند مقر النادي السوري ونهايته إلى آخر النيال أو الحميدية .

تقام منصة - سرادق خشبي كبير - في ساحة سعد الله الجابري يتواجد فيها المسؤولون في حلب ومدراء الدوائر الحكومية  وقناصل الدول المعتمدة في حلب وأشخاص تلقوا بطاقات دعوة ومشاركة .

قبل بداية المهرجان يمر آمر العرض العسكري على القطع العسكرية المشاركة بسيارة مكشوفة وعندما تنتهي جولته يبدأ العرض العسكري على فرقة موسيقى الجيش وتظل الفرقة تعزف حتى نهاية المهرجان .

جماهير شعبية على جانبي طريق المهرجان صفوف متراصّة من الرجال والنساء و الصبيان والبنات ، جاؤوا ليتمتعوا بهذا المهرجان ، وخلف الحشود الشعبية يقف الباعة المتجولون هناك من يبيع الفلافل و الهريسة والكعك و السوس  والتمر الهندي والعيران والبزر والقضامة .

و تحوم الطائرات فوق سماء حلب تحمل السعادة بفرح عيد الجلاء ، الحشود الشعبية تصفق لكل فرقة مشاركة في العرض ، وترتفع أصوات من الحشود الشعبية تنادي أبناءها المشاركين في العرض ، المشارك في العرض تُعْلِمُه أمه أو يعلمه أبوه أنهما قد شاهداه ، حتى تدخل السعادة إلى نفسه ... ويشارك في المهرجان المحاربون القدماء والثوار الذين اشتركوا ضد الفرنسيين ، ولجان الأحياء الشعبية وتشترك فرق الرقص الشعبي ، لها محطات تقف فيها لتؤدي عروضها ويؤدي أفرادها المبارزة بالسيف والترس ، ويشترك في المهرجان عنترة وعبلة على جملين كرمزٍ للفروسية العربية ، وتؤدي عبلة بعض الرقصات على ظهر الجمل ، الجماهير التي حضرت المهرجان أصواتها لا تنقطع فرحة مستبشرة ، والتصفيق والصفير مستمر مع كل فرقة مشاركة .

ينتهي المهرجان والسعادة ملأت قلوب الناس ، هناك من عاد إلى بيته ، وهناك من تواعد مع أولاده في اللقاء في الحديقة العامة أو في السبيل ، أو ذهب الناس للتمتع بالطبيعة في أرض محطة الشام في آخر خط الترام عند آخر الجميلية ، حيث يجلس المرء في أرض زراعية مزروعة بالشعير ويرى منها مبنى كلية الهندسة ، ليست هناك أبنية تحجب الرؤية .

انتشر الناس في الحدائق والمنتزهات حتى يستمروا في أفراحهم في يوم ربيعي مشمس ، ?? نيسان يمثل عنفوان الربيع وكمال جماله ، وأقبل الناس على شراء العقابية من الباعة المتجولين ، صندويشة الفلافل لا تزيد عن ثلاثة فرنكات ، وكأس العيران بفرنكين ، وبائع السوس يصدح بطاساته ، كل طاستين بفرنك أو طاسة واحدة بفرنك ، و يستطيع المرء أن يملأ جيبه بالبزر بفرنك .

تجري مباريات بكرة القدم بين أندية حلب على كأس عيد الجلاء وفي المساء يخرج الرياضيون والأفواج الكشفية وطلاب الفتوة بمسيرات ليلية حاملين المشاعل ، وفي الليل تبتسم قلعة حلب لأهل حلب بأنوارها بمناسبة عيد الجلاء .

تنام مدينة حلب سعيدةً وقد ابتهج أهلها بعيد الحرية ....

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين