عواقب اختيار الغلو منهجاً

على ظَهر هذه البسيطة، أمر الله البشر باستعمار الأرض، لكن بعضهم لم يبال بخرابها لمنفعته، وبعضهم أراد إعمارها على قيم الظلم والعدوان، لذلك فقد أرسل الله المرسلين ليبينوا للناس منهج الله، ويقوموا بمهمة الإصلاح التي جعلوها منهجاً لحياتهم، وبما أن الله خلق الإنسان وفيه نوازع الخير والشر، والتساهل والغلو، فقد أراد البعض أن يصلح، لكنه لم يسر على منهج الأنبياء، بل اختار منهج الغلو والتشدد الذي ظنَّ أنه يناسب الواقع أكثر!!

من القواعد المطردة «أينما وجد الغلو وجد ذمه»، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ}، وفي الحديث: «إيّاكم والغُلوّ، فإنّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ».

لا يمكن لأحد أن ينكر الواقع السيئ الذي تعيشه أمتنا اليوم، فقد تطرف العدو في استفزاز مشاعرنا، وتطرف الإعلام باستفزاز قيمنا، وتطرف كثير من التيارات حتى إنها لم تجد لنا مكانا خيراً من قفص الذل أو صندوق القبر!!

وهذا الواقع يحتاج لجهد إصلاحي تراكمي تقوم به فئة من الأمة تستنهض الهمة والخير في صدور الباقين، إلى أن يأذن الله بتغير هذا الحال..

لكن بعض الشباب لا يطيق صبراً على سلوك هذا الطريق نظراً لطول مساره، ولأنه شاب تغلي في عروقه الدماء فإنه يُسْتفز بشكل أكبر ويرى أنه لا سبيل إلا في التشدد والغلو، ولربما اتهم من يتبنى منهج الإصلاح السلمي بالضعف والخور!! وهنا سأبين ماذا يمكن لهذا الإنسان أن يحقق عند سيره في هذا الطريق:

أولاً: لن يزيد الواقع السيئ إلا سوءاً: لقد أثبتت الوقائع منذ ظهور الخوارج وحتى يومنا هذا أن التيارات المتشددة لم تحل قضية أبداً، بل على العكس، فإنها تزيد الخلاف، وتوسع دائرة الصراع، وتستبيح دماء الخصوم والأصدقاء، ومع ذلك فلم يسجل لنا التاريخ أنها حسمت معركتها في جولة ما، أو استقرَّ لها الأمر في بلد ما.

ثانياً: سيغلق بوابة عقله أمام العلم، ويقتصر على ما فهمه خطأً: من أهم أسباب الغلو والتشدد الضعف العلمي، والابتعاد عن العلماء الربانيين، والتعالم والغرور الشخصي، نعم قد يحفظ المغالي شيئاً من النصوص لكنه لم يمتلك الفقه السليم لمعرفة دلالاتها وأحكامها، وهو برفضه لمنهج العلماء الربانيين، فإنه لن يثق إلا بنفسه أو بمن يشبهه، وبذلك فإنه أغلق باب العلم واكتفى ببعض النصوص التي لا يحفظ غيرها، والتي يسقطها في غير موضعها، ويستشهد بها في غير سياقها!!

ثالثاً: سيحوم حول حمى النفاق: يتشدد بعض الناس للظهور بمظهر الأتقى والأورع، ويترافق سلوكهم هذا غالباً بتناقض عملي صارخ أو حتى نظري في إصدار أحكام غير متجانسة تجاه أشياء متجانسة، ومن هنا يظهر المتشدد بمظهر المنافق -ولعله يكون كذلك ولعله لا يكون- إلا أنك ستجد أن التناقض ملمح رئيسي من ملامح سلوك المتشدد النفسي والفكري والعملي.

رابعاً: سيصاب بانفصام في الشخصية: خلق الله الإنسان، وزرع فيه رغبات وغرائز وشهوات، وأمره بأوامر يتحملها وإن رافقها شيء من المشقة، فإن تحولت هذه المشقة من مشقة محتملة إلى مشقة غير محتملة فهذا يعني أننا أمام أحد ثلاثة احتمالات:

• وجود رخصة شرعية، أو توجيه شرعي للحل.

• فإن لم توجد فهذا يعني أن النص المستشهد به غير صحيح.

• فإن كان النص صحيحاً فهذا يعني أن فهمه غير سديد.

أما من يحارب هواجسه وغرائزه البشرية، ويعتبرها من صنع الشيطان، فإنه سيفشل في محاربتها لأن مغالب الفطرة مغلوب، ونتيجة لفشله في محاربتها فإنه سيظهر بميول متصارعة وسلوك متناقض سيؤثر على تركيبته النفسية والعقلية.

آخر ما أريد قوله:

إنَّ الغلو والتشدد هو النموذج الذي يجب أعداء الإسلام إشاعته عن المسلمين وذلك لتمام عواره، بينما يخشون كل الخشية من النموذج الوسطي الذي يلقى القبول، وتستريح له النفوس.

ربما يفسر لنا هذا دعم أجهزة مخابرات للحركات التكفيرية، ومحاربتها للحركات المعتدلة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين